لما ظهر اشتراك المرأة في ثورة يناير 2011 كما اشتركت في ثورة 1919 وتكاتفت مع الرجل في ميدان التحرير نهاراً وليلًا، واعتصمت في الخيام أراد رجال النظام السابق من الأمن والشرطة والداخلية والمخابرات تشويه سمعة النساء خاصة الطالبات اللاتي اشتركن في المظاهرات أمام الرأي العام. والجنس هو المسيطر على الثقافة الشعبية مع الدين والسلطة، محرمات أو أمور حساسة ثلاثة لا يجوز الاقتراب منها أو المساس بها. وقد تكون الرواية التي تناقلتها بعض أجهزة الإعلام غير صادقة ومن نوع المغالاة والتهويل وبيان بشاعة النظام السابق وهو في نزعه الأخير. أما إذا كانت الرواية صحيحة فإنها تدل على بشاعة الأمر. والسبب في ذلك سواء كانت الرواية كاذبة أو صحيحة هو تشويه صورة الثورة وصورة المرأة في آن واحد. فالفتاة غير المتزوجة، وفق هذا الفهم، لا تثور. تجلس في بيتها. ولا تختلط بالرجال في المظاهرات، ولا تشارك في الاعتصامات، ولا تـُجر على الأرض من شعرها، ولا تنتزع ملابسها فتظهر نصف عارية. مكانها في المنزل، في حضن أمها، وتحت سلطة أبيها وأخيها الأكبر أو زوجها، تساعد أمها في أعمال المنزل أو تجلس أمام التلفزيون لرؤية الأفلام والمسلسلات أو تشاهد مناظر القتل والضرب والسحل للثوار الأحرار عن بعد، طبقاً للمثل القائل "ابعد عن الشر وغني له" أو "الباب اللي يجيلك منه الريح سده واستريح". والواقعة تقوم على عدة تصورات خاطئة. فهل الثورة مرتبطة بسن معينة للفتاة؟ وماذا عن اشتراك الزوجات والمطلقات والأرامل في الثورة؟ وهل الثورة تطعن في شرف البنت أم تؤكد عليه؟ وهل كانت الفتيات الصغيرات في النظام السابق ثائرات أم أنهن قبلن الاستبداد والقهر والفساد والرشوة والاستيلاء على ثروات الأمة؟ هل الثورة تفريط في العرض أم تأكيد على شرف الأمة من الانتهاك؟ ألم يكتب جان بول سارتر مسرحية "المومس الفاضلة" لبيان أنها تدافع عن الأسود الهارب من قتل الأبيض له وخبأته في بيتها وهي تخاطر بحياتها؟ إن التجارة بالوطن مثل التجارة بالجنس، ونهب المال العام وغسيل الأموال، والتجارة بالأراضي العامة وتهريب الثروات إلى الخارج والرشاوى كل ذلك قضاء على مصالح وكرامة الوطن ونيل من شرفه. وهل الطعن في شرف الفتاة الثائرة أو الشك فيها أو الكشف عليها يوقف الثورة؟ فالثورة ثورة سواء كانت الثائرة فتاة أم لا. لِمَ ربط سن معينة ونوع معين بقبوله للاستبداد وعدم الثورة عليه؟ الاستبداد هو الاستبداد يثور عليه الجميع. وتثور الحرة عليه سواء كانت فتاة أم غير امرأة. والثورة فضح للاستبداد وليست تستراً عليه. والثورة شجاعة القلب، واحتجاج من الجميع، رجالًا ونساء. الثورة لا جنس لها. ولا علاقة لها بالجنس. الثورة أكبر من الجنس، انتفاضة كلية شاملة وليس انتفاضة فئوية. إن القصد من الربط بين الثورة ونوع معين من الناس، كنقيضين هو تخويف الرأي العام من الثورة ودفاع الأسر عن شرف بناتها، وكأن التي تكشف النقاب عن وجهها كما فعلت هدى شعراوي في ثورة 1919 لا حياء لها. وهو تصور عصر الحريم والخلافة المحجبة بتعبير الشيخ طنطاوي جوهري. ورفع الفلاحة غطاء الرأس علامة على الثورة في تمثال نهضة مصر لمختار. والأسر كانت سعيدة بتقديم أولادها، دون تفرقة بين ذكر وأنثى، في سبيل الثورة. الثورة شرف للمواطن كما أنها شرف للفتاة. الثورة تضحية تلقي الرصاص في القلب وفي العين. والنيل من شرفها جبن. في "وطني عكا" لعبد الرحمن الشرقاوي مقاوم فلسطيني في حفرة على مدفعه الرشاش دفاعاً عن قريته التي قرر المستوطنون الإسرائيليون الاعتداء عليها. وبجواره مقاومة أجنبية، فرنسية، مؤمنة بالقضية الفلسطينية وبحقوق شعب فلسطين على مدفع رشاش آخر. وكان القمر ساطعاً، ونوره ينير الوجوه. والعيون تلمع بانعكاس ضوء القمر عليها. فتحابا. وشعر الفلسطيني بأنه خان القضية. وجاءه إحساس بالذنب. وكانت الأجنبية فرحة لأنها أحبت مقاوماً فلسطينيّاً مثلها. وجاءها إحساس بذلك. وأقنعته في حوار يكشف عن التمايز بين الثقافات، أن من لا يحرر نفسه داخليّاً لا يستطيع أن يتحرر خارجيّاً، وأن الذي لا يستطيع أن يفتح قلبه للحب لا يستطيع أن يحرر وطناً. فالشجاعة واحدة. والإقدام واحد. تلك ثقافة أخرى تربط بين الثورة والحب سلباً أو إيجاباً. وتحرير المرأة هو تحرير للوطن، وتحرير الوطن هو تحرير للمرأة كما حدث في ثورة 1919 وفي ثورة يناير 2011 وكما يحدث في كل الثورات. وإذا تم الكشف على شرف المرأة لمعرفة سبب ثورتها في ميدان التحرير هو السبب واتهام الثائرة حتى يحاصرها الناس قبل أن تحاصرها قوى الأمن والشرطة وأجهزة المخابرات العامة، فماذا عن الرجال؟ كيف يكشف عن شرف الرجال؟ أم أن هناك مقياساً آخر لمعرفة سبب ثورة الرجال غير الجنس؟ هل هناك مقياسان يعبران عن الرؤية المزدوجة والمقياس المزدوج للمرأة والرجل؟ أم أن الرجل خارج كل المقاييس. فالرجل يفعل ما يشاء.لا تثريب عليه. إنما المرأة هي المجروحة خلقيّاً وجنسيّاً وكأنها تفعل ذلك بمفردها دون الرجال؟ ولماذا يكون الاتهام للنساء وحدهن دون الرجال؟ وماذا لو استطاع كشف العذرية أن يحرر وطناً؟ وقد استطاعت "جان دارك" العذراء أن تحرر وطنها فرنسا من الاحتلال البريطاني الذي وصل إلى جنوب فرنسا كما استطاع ديجول فيما بعد تحريرها من الاحتلال النازي. وماذا عن جميلة بوحيرد وباقي المواطنات الجزائريات اللاتي قاومن الاحتلال الفرنسي؟ وماذا عن المقاومات الفلسطينيات اللاتي قاومن وما زلن يقاومن الاحتلال الصهيوني لفلسطين؟ إن الجنس والدين والسياسة ما زالت أسلحة ثلاثة في يد النظام السابق والثورة المضادة ضد الثوار. فالثائر، حسب دعايتهم، لا أخلاق له. ولما كانت الأخلاق مركزة حول الجنس فالثائر "إباحي" يعتصم في الخيام، في الميادين وفي الطرقات ليلاً. ولا يدري أحد ماذا يحدث فيها حتى ولو كان في البرد القارس للشتاء. والثائر لا إيمان له، في رأيهم أيضاً. ومن يخرج على النظام السابق فقد عصى. والثائر فوضوي لا يؤمن بنظام يقوم على الأمن والاستقرار. وهو "إرهابي" يستعمل العنف ضد المواطنين الآمنين. يريد تغيير النظام الاجتماعي بالقوة. وهو عميل للقوى الخارجية التي تتآمر على البلاد وتبغي بها شراً. وهو ما قيل قديماً عن الخوارج الذين خرجوا على النظام، وعلى المعتزلة الذين اعتزلوا الجماعة. أما الغير الموالون للنظام فكأنهم "الفرقة الناجية" والنموذج الذي لا يستطيع أحد الخروج عليه. والخارجون هم الفرق الضالة. كأن الفلول هم الفرقة الناجية، والثوار والثائرات هم الفرق الهالكة.