يبدو أنّ المواقف السياسية بين الولايات المتحدة والاتحاد الروسي حول سوريا بدأت تتباعد شيئا فشيئاً، فواشنطن تنظر إلى الوضع السوري من منظور إنساني وسياسي، بينما تنظر موسكو إليه من منظور استراتيجي بحت. وعلى رغم اتفاق الطرفين على إرسال المراقبين الدوليين وتفعيل مهمة مندوب الأمم المتحدة والجامعة العربية كوفي عنان، إلا أنّ هذا الاتفاق على مهمة محدودة التأثير والأثر، قد جعل من مثل هذا التوافق وكأنما هدفه إبقاء الأمور واحتوائها بدلاً من تغيير الوضع القائم وإيجاد حلول حقيقية وفعالة وقادرة على اجتراح تسوية مستدامة تستجيب لتطلعات الشعب السوري، ووضع القيادة السورية الحالية موضع المساءلة والمحاكمة لما اقترفته من مجازر وآثام بحق المواطنين السوريين. ومع اعتقادنا أنّ الوضع السوري وأزمته الراهنة قد يطول، وقد يتحول إلى حرب أهلية، وربما تفاعل أكثر فأكثر مع التصعيد ليشهد أعمالاً انتقامية من جانب الطرفين الحكومي والمعارض، إلا أنّ هذه الأزمة تمّ تدويلها سلفاً وأصبحت، في الواقع، جزءاً من حربٍ باردة جديدة بين الشرق والغرب. بل لقد أصبحت الأزمة السورية محكاً ومختبراً لأزمة لاحقة بين الغرب وإيران، وحاولت القيادة الروسية أن تظهر، بشكل واضح، أنها حامية حمى النظامين السوري والإيراني أمام التهديدات الخارجية. وقد انتهزت روسيا كذلك انسحاب القوات الأميركية من المنطقة وقرب انسحابها كذلك من أفغانستان، لتعلن نفسها وريثة للنفوذ الأميركي المتراجع في منطقة الشرق الأوسط. وربما بدا أنّ روسيا وإيران تلعبان اللعبة نفسها في المنطقة، وإن كان ذلك بمعايير مختلفة. وفي الحرب الباردة، حاول كِلا الطرفين الأميركي والروسي أن يحركا أحجار الشطرنج على رقعة الجغرافيا الإقليمية، بشكلٍ متوازٍ ومتوازن. ففي الوقت الذي أجرت فيه القوات الأميركية مع حلفائها في البحر الأبيض المتوسط مناورات بحرية وجوية، نفذت أيضاً القوات الروسية البحرية مناورات مماثلة انطلاقاً من ميناء طرطوس السوري. وحين أقامت الولايات المتحدة محطات رادار في تركيا والفضاء الإقليمي، سعت روسيا أيضاً، في المقابل، إلى إقامة محطة رادارات جديدة في جبال أرمينيا، يُقال إنّ هدفها الرئيسي هو حماية منطقة القوقاز وشمال إيران من أية هجمات جوية مُحتملة. وبالنسبة لدول الخليج العربية، لا حاجة للتذكير بأن أمنها وأمن مواطنيها ومنشآتها يبقى في غاية الأهمية، وفوق كل اعتبار آخر، ولذا، فإنّ هذه الدول ستسعى إلى حماية هذا الأمن بكل ما أوتيت من مقدرات وتحالفات إقليمية أو دولية. ومع تزايد التهديدات المحيطة بها، فإن تكاليف إنشاء شبكات حماية حيوية للمنشآت النفطية والصناعية لدول الخليج العربية ستكون عالية، وستستنزف جزءاً من احتياطاتها النقدية. وعلى رغم بحبوحة العيش التي تعيش فيها هذه الدول، إلا أنّ المصروفات الدفاعية ستكون حتماً على حساب برامج التنمية المحلية والإقليمية. ومع ذلك فإنّ دول الخليج العربية يمكنها كسر محاولات "صندقة" القرارات الاستراتيجية، وخلق أجواء جديدة معاكسة للحرب الباردة الهابّة في الإقليم، عن طريق فتح حوار استراتيجي مع القوى الصاعدة، سواءً في روسيا أو الصين أو غيرهما من الدول الكبيرة والمهمة في النظام الدولي. وتطمين هذه الدول إلى أنّ مصالحها الاقتصادية في المنطقة يمكن الحفاظ عليها، وفي المقابل فعلى هذه الدول، خاصة روسيا، أن تراعي المصالح الاستراتيجية لدول الخليج العربية. فصداقة هذه الدول أهم وأعمق بكثير، وفق منطق المصالح والسياسة الواقعية نفسها، من مصالح عابرة مع نظم سياسية مهترئة ومنبوذة من شعوبها، تعيش على الأزمات وتحيا على اضطهاد شعوبها، ولا مؤشر في الأفق يدل على إمكانية بقائها. ومثل هذا الحوار البناء، القائم على منطق المصالح المتبادلة، قد يخفف من التوتر الذي تحاول أن تستغله بعض الأطراف الإقليمية لمصلحتها. وقد رأت كل من روسيا والصين أن علاقاتهما المتينة مع دول مجلس التعاون قد خدمت في الماضي مصالح هذه الدول، ويمكن أن تؤدي الدور نفسه أيضاً في المستقبل. ويعني هذا أنّ التحالفات الدولية القائمة تعمل بلا شكّ لمصلحة دول مجلس التعاون، وخلق علاقات دبلوماسية جديدة ومتشابكة تهدف إلى تحييد الأعداء المحتملين، من شأنه أن يخدم مصالح دول مجلس التعاون في الأمد البعيد. وينبغي أن نعرف تماماً أنّ الحرب الباردة الجديدة لن تقود إلى حروب إقليمية ساخنة، فالغرض منها هو الردع، وربما يتحقق الردع عبر وسائل الضغط الدبلوماسية والعسكرية والمالية. غير أنّ الجميع لا يريد الحرب، ولا يرغب في الدخول فيها. وتبقى إذن اللعبة في الأصل لعبة سياسية بتكاليف مالية باهظة. ويمكن تخفيف هذه التكاليف، وتخفيف معاناة الشعب السوري أيضاً من خلالها، إذا ما جنحنا إلى الدبلوماسية الفاعلة. فمثل هذه الدبلوماسية، خصوصاً إذا ما اقترنت بمخاطبة الشعوب، فإنها ستكون ذات تأثير على سياسات الدول المعنية. وربما يكون الفرق الوحيد بين الحرب الباردة الجديدة التي تلوح في الأفق، والحرب الباردة القديمة، هو أن الترابط الاقتصادي والفكري بين الشرق والغرب قد تغيّر بصورة جذرية. وبدا وكأنّ الاعتماد المتبادل والثقافة السياسية المعولمة، مع قيمها العالمية، من شأنها أن تحول دول تجذر هذه الحرب، أو استغلالها لإشعال حروب إقليمية. واختراق الجدران هو السبيل الدبلوماسي الأمثل، بدلاً من المكوث خلف هذه الجدران.