بعد مرور أسبوعين على الزيارة التي قام بها الرئيس الباكستاني آصف علي زرداري إلى الهند، عاد موضوع جبال "سياشين"، التي تعتبر أعلى منطقة متنازع عليها في العالم، ليتصدر اهتمام البلدين وليعود الحديث عن الموضوع بعد فترة طويلة ظل فيها بعيداً عن النقاش العام. لكن المنطقة الوعرة التي تفصل بين البلدين من جهة كشمير ارتبطت بحوادث مأساوية كتلك التي جرت أواخر الشهر الماضي عندما فقد 135 جندياً باكستانياً من قوات النخبة، ومعهم مدنيون، حياتهم في حادث انهيار ثلجي. ورغم الجهود التي بذلتها السلطات الباكستانية للعثور على جثثهم فإنها لم تُوفق في ذلك بسبب سوء الأحوال الجوية ووعورة التضاريس، هذه الحادثة المؤلمة كانت كفيلة بإثارة موضوع جبال "سياشين" المتنازع عليها بين الهند وباكستان وتسليط الأضواء الكاشفة على الجدوى من الصراع المستمر حولها ونشر الجنود على قممها لتصبح بذلك أعلى منطقة في العالم تنتشر فيها قوات مسلحة، علماً أنها منطقة جرداء يكسوها البياض طوال السنة، ولا أهمية استراتيجية لها عدا أنها تخترق أراضي البلدين، وعلى امتداد سلسلة الجبال التي تبلغ مساحتها 74 كلم مربع وتخترق خط الحدود بين الجارين، بحيث تحتفظ الهند بقواتها على القمم العالية للجبال فيما تتمركز القوات الباكستانية على القمم الأقل علواً. وقد وصل الصراع بين الجارين لبسط سيطرتهما على السلسلة الجبلية الثلجية أوجه عام 1987 عندما نشبت معارك مسلحة بين القوتين على أمل احتكار السيطرة ودفع الطرف الآخر خارجها، لكن المعركة انتهت دون تغيير الأمر الواقع لتظل المنطقة مقسمة بين الهند وباكستان وليظل الصراع مستمراً على كتل جليدية لا فائدة تجنى منها. وبعد انتهاء المعارك انطلقت عملية السلام بين البلدين منذ 2004 في محاولة لتسوية الخلاف، لا سيما وأن الظروف القاسية التي يعانيها جنود البلدين في المنطقة صعبة للغاية بتمركزهم على مقربة من بعضهم البعض وبقائهم على أهبة الاستعداد الدائم، هذا في الوقت الذي تصل فيه درجة الحرارة إلى ما دون 70 درجة مئوية تحت الصفر لتؤدي في الكثير من الأحيان إلى إصابات بليغة في صفوف الجنود وفقدانهم للبصر أحياناً أخرى بالنظر إلى الظروف القاسية التي يعيشون فيها معَلقين في أعلى قمم الجبال الثلجية، وحتى الحركة على سطح طبقة سميكة من الجليد تصبح عسيرة للغاية تعقد على القوات المسلحة للبلدين مهامهما وتدفع الجنود إلى استخدام زلاجات للتنقل السريع. والحقيقة أن عدد الجنود الذين قضوا بسبب البرد الشديد ووعورة التضاريس أكبر من العدد الذي سقط خلال المعارك، ومع وقف إطلاق النار في المنطقة خلال 2003 وبدء عملية التفاوض حول مصير "سياشين" لم يتحقق أي اختراق ملموس في الموضوع ليستمر التوتر وتبقى أسباب النزاع، لذا جاءت الحادثة الأخيرة التي فقد خلالها جنود باكستانيون حياتهم في انهيار جليدي لتعيد الموضوع إلى الواجهة وتدفع الطرفين إلى إحياء المفاوضات والبحث عن حل دبلوماسي بعد الإدراك المتنامي لدى الطرفين باستحالة استمرار الوضع على ما هو عليه. وهذه المرة أتت المبادرة من الجانب الباكستاني، وتحديداً من رئيس هيئة الأركان، الجنرال "أشفق بارفيز كياني" من خلال تصريحات أدلى بها مؤخراً تشير إلى ضرورة إنهاء الصراع حول جبال "سياشين"، وذهب أبعد من ذلك إلى التذكير بالمبالغ المالية الكبيرة التي ينفقها البلدان على كتلة جليدية، داعياً في هذا السياق إلى نزع سلاح المنطقة وإخلائها عسكرياً، فالملايين من الدولارات التي تنفق سنوياً لإبقاء القوات في تلك المنطقة الوعرة يمكن توجيهها إلى أغراض التنمية ليستفيد منها الشعبان. هذه التصريحات كان لها وقع إيجابي في الهند التي سارعت هي الأخرى إلى الترحيب بالإشارات الباكستانية حول الحاجة إلى تسوية النزاع حول جبال "سياشين"، وتلقف وزير الدفاع الهندي السيد "راجو" المبادرة الباكستانية مشيداً بها في مؤتمر صحفي حول الموضوع، لا سيما في ظل التحديات الاقتصادية والتنموية التي يعيشها البلدان، وفي ظل أيضاً المعاناة التي يقاسيها الجنود في منطقة بالغة الصعوبة. فحسب التقديرات تنفق الهند التي سيطرت على مناطق شاسعة من سلسلة الجبال المتاخمة للهمالايا، بما فيها على قمة التي يصل علوها إلى 22 ألف قدم، أكثر من مليون دولار في اليوم الواحد، فيما تشير نفس التقديرات أن النفقات الباكستانية تحدد في 32 ألف دولار، ومن المتوقع أن يبدأ وزيرا الدفاع في البلدين المباحثات حول "سياشين" قريباً. لكن الوعي بضرورة تسوية النزاع لا يعني أن المسألة ستكون سهلة، وبخاصة في ظل محاولات سابقة وصلت إلى مراحل متقدمة في عهد الرئيس الباكستاني، برويز مشرف، دون أن تثمر شيئاً. ويبقى اليوم أن يتفق الجانبان على استئناف المباحثات من حيث توقفت، وتأمل باكستان أن يتم التوقيع على اتفاقية حول "سياشين" خلال الزيارة المتوقعة لرئيس الحكومة، مانموهان سينج، إلى باكستان خلال السنة الجارية، وإن كانت المشكلة الأساسية تكمن في ترسيم الحدود في المنطقة وإلزام الدولتين باحترامها، ورغم الصعوبة التي تنطوي عليها المباحثات بشأن "سياشين" ومساعي حل النزاع، يبقى الأكيد أن الزيارة الأخيرة للرئيس الباكستاني إلى الهند بعثت الدفء مجدداً في أوصال العلاقات بين البلدين كان من تجلياته تحقيق بعض التقدم على الجبهة الاقتصادية مثل رفع الهند لحظرها القديم على الاستثمارات الباكستانية التي كانت البلد الوحيد الممنوع من الاستثمار في الهند، هذا بالإضافة إلى دراسة الهند لمشروع بيع الكهرباء إلى باكستان، وعلاوة على التعاون الاقتصادي تحقق أيضاً بعض التقدم على الصعيد الأمني، حيث حذر وزير الداخلية الباكستاني، "رحمان مالك"، نظراءه في الهند خلال الأسبوع الماضي من احتمال تسلل عناصر "طالبان" إلى الهند، مشيراً إلى معلومات حصلت عليها إسلام أباد تفيد باحتمال دخول عناصر من "طالبان" إلى الهند، وفي حال تمكن البلدان من تعميق التعاون بينهما في عدد من المجالات فإنهم سيقللون من احتمالات انهيار فرص السلام بينهما التي سبق لها أن تعرضت لانتكاسات عديدة.