يبدو أن المباحثات التي جرت قبل أسابيع في إسطنبول بين المسؤولين الإيرانيين ومندوبي مجموعة الخمسة زائد واحد (المتمثلة في الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا ثم ألمانيا) قد مرت في ظروف معقولة، وسارت في طريق مقبول، مع اتفاق الأطراف المشاركة على عقد جولة أخرى من المباحثات خلال الشهر المقبل في بغداد. وهذه المباحثات وصفها المسؤولون الأميركيون بأنها "خطوة إلى الأمام"، فيما قالت ممثلة السياسة الخارجية الأوروبية، كاثرين آشتون، إنها كانت "بناءة ومفيدة". أما المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، رامين مهمانبارسات، فقد صرح أمام الصحفيين عقب المباحثات قائلًا: "نحن متفائلون بشأن مستقبل المفاوضات ونريد باقي الأطراف أن تقرن أقوالها بالأفعال". والحقيقة أن المراقبين والمحللين رصدوا جملة من المؤشرات التي تشي باحتمال التوصل إلى حل دبلوماسي لأزمة الغرب مع إيران وإنهاء الجدل المتواصل حول برنامجها النووي الذي تتخوف القوى الغربية من توجيهه لأغراض عسكرية. وفي مقدمة تلك المؤشرات التي ربما تبعث على التفاؤل بالمستقبل الصفة الجديدة التي جاء بها كبير المفاوضين الإيرانيين، سعيد جليلي، إلى طاولة المباحثات، ففي الوقت الذي كان في السابق يحمل لقب الممثل الشخصي للرئيس الإيراني، قدم هذه المرة بلقب مختلف تماماً باعتباره الممثل الشخصي للمرشد الأعلى خامنئي، وهو ما يعطي جليلي سلطة أكبر وصوتاً أعلى للدخول في مفاوضات قد تنتهي بالتوقيع على اتفاقية مع كل ما يترتب على ذلك من التزامات قانونية. ومن جانبها نقلت الصحافة الأميركية الأجواء التي أحاطت بالمفاوضات، ولاسيما الإشارة إلى عدد من الفتاوى الدينية التي أصدرتها المؤسسة الرسمية بحرمة تصنيع الأسلحة النووية، أو السعي إلى امتلاكها، فقد حرم المرشد الأعلى نفسه في فتوى له إنتاج السلاح النووي، أو نشره، وذلك درءاً للأخطار الكثيرة المحدقة ببلاده. وفي نفس السياق أثناء انعقاد مؤتمر نزع السلاح في جنيف قبل عدة أسابيع طالبت إيران خلال المفاوضات بالتوصل إلى معاهدة تحظر الأسلحة النووية، معتبرة إنتاج القنبلة النووية التي يتهمها بها البعض "خطيئة كبرى". وهي إشارات كلها تصب في اتجاه سعي إيران إلى طمأنة الغرب، ولكن الأهم من ذلك أنها ربما تكون بصدد تهيئة الرأي العام الداخلي لتنازل، فيما يخص برنامجها النووي بالقول إن ذلك كان دائماً يتسق مع سياساتها الرافضة للأسلحة النووية. غير أن المؤشر الأكثر وضوحاً على احتمال التوصل إلى اتفاق بين الغرب وإيران هو ما صرح به وزير الخارجية الإيراني، علي أكبر صالحي، من أن بلاده مستعدة لقبول معاهدة توقف بمقتضاها إيران تخصيب اليورانيوم مع الاحتفاظ فقط بما يكفي للأغراض الطبية. ولكن اللافت للنظر هو موقف نتنياهو المعروف بدعوته للحرب على إيران، حيث اتهم مجموعة الخمسة زائد واحد بتقديم صفقة مجانية إلى إيران، محذراً من أن الإيرانيين سيكون بمقدورهم الاستمرار في تخصيب اليورانيوم من اليوم وحتى موعد المباحثات المقبلة. والغريب ليس موقف نتنياهو المعروف سلفاً، بل المدى الذي ذهبت إليه بعض القوى الغربية في تبرير اتفاقها مع إيران، وكأنها وباقي القوى تفاوض نيابة عن إسرائيل، فقد سارعت إدارة أوباما بعد انتقادات نتنياهو إلى التأكيد بأن العقوبات ستبقى مفروضة حتى تتضح خطوات ملموسة من الجانب الإيراني، ورد أوباما نفسه بالقول "لم نقدم شيئاً مجانيّاً لإيران". ودرءاً للانتقادات أصر المسؤولون الأميركيون على أن نتنياهو أُخبر بفحوى المفاوضات قبل وبعد لقاء إسطنبول، كما أبلغ مسؤولو الإدارة الأميركية صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية بأن اجتماعات مكثفة عُقدت مع الإسرائيليين قبل الذهاب إلى تركيا، بل أكثر من ذلك اتصلت "ويندي شيرمان"، رئيسة الوفد الأميركي المفاوض بالسفير الإسرائيلي في واشنطن "مايكل أورين"، قبل ساعات قليلة من بدء الاجتماع وأطلعته على الأجندة كاملة، ولكن كل ذلك التنسيق مع إسرائيل لم يرضِ نتنياهو، والسبب أن هدفه يختلف جوهريّاً عن الأهداف المسطرة من قبل القوى الخمسة زائد واحد التي تتفاوض مع إيران. فقبل الدخول في المفاوضات وحتى لا تتسم بالعبثية تم تحديد مرجعيتها بشكل واضح، تلك المرجعية القائمة أولاً على معاهدة عدم الانتشار النووي باعتبارها الوثيقة الأساسية التي يُبنى عليها الاتفاق. وثانيّاً ضرورة احترام إيران لالتزاماتها الدولية بموجب المعاهدة. ثم، ثالثاً، تدرج عملية المفاوضات وتقدمها خطوة بخطوة على أن يكون التقدم من الجانبين معاً في إطار من التبادلية. ولأن إسرائيل ليست عضواً في معاهدة عدم الانتشار النووي وترفض بشدة فتح منشآتها النووية أمام مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية فإنها ليست مؤهلة لمطالبة إيران بقبول ما ترفضه هي. وربما يكون نتنياهو من خلال ميله نحو الحرب يسعى إلى تحقيق مكاسب على المدى البعيد في ظل الأسلحة المتطورة التي حصل عليها مؤخراً من الولايات المتحدة، مثل نظام الدفاع الصاروخي المعروف باسم "القبة الحديدية" الذي أثبت نجاعته ضد الصواريخ المنطلقة من غزة، وحصولها أيضاً على قنابل جديدة خارقة للتحصينات طورتها الولايات المتحدة. ولكن التقدم الإيجابي الأخير يمنح إدارة أوباما بعض الفوائد، فهو من جهة يعطي أوباما الفرصة لخوض الانتخابات الرئاسية بهدوء بعيداً عن مشاكل الحروب وتعقيداتها. وثانيّاً يوفر أيضاً فسحة من الوقت للبحث عن حل دبلوماسي للأزمة الإيرانية. وحتى إن كان هذا الأمر غير مرغوب فيه من قبل نتنياهو فهو بالتأكيد جيد لإيران وإدارة أوباما والمجتمع الدولي بأكمله.