أثارني ما يكتب في بعض الصحف والمواقع الإلكترونية العربية من سخرية تبدو في ظاهر الأمر تهكماً على الإسلاميين المتطرفين أو المتشددين، ولكنها تسيء لصورة الإسلام بما تترك من انطباعات توحي وكأن موضوع السخرية هو من الإسلام نفسه. ولست أنكر أن بعض الذين يدعون الإسلام مسؤولون عما يسببه سوء فهمهم، وقتامة فكرهم، ولكنني أرجو أن يتم الفصل بين الإسلام والمسلمين، فصلاً يوازي الفارق بين النص وفهمه، وبين القانون وتنفيذه، وأعترف بأنني لا أعرف الفارق الدقيق بين المسلمين والإسلاميين، فلم يتح لي أن أقرأ إلى اليوم توصيفاً لمعنى الدلالة الحديثة لهذا المصطلح الذي سبق أن تداوله الباحثون والمؤرخون على أنه يعني المسلمين جميعاً. فنحن نقرأ ترجمة لكاتب أو مفكر مسلم في تاريخنا القديم، فنجد توصيفاً له بأنه كاتب إسلامي، بمعنى أنه مسلم، وليس بمعنى أنه صاحب مشروع سياسي بالضرورة. ولكن المصطلح الراهن يبدو ملتبساً لأنه يفرق دون إيضاح بين مسلم وإسلامي، وأكاد أفهم أن المقصود بالإسلامي هو من يحمل مشروعاً سياسيّاً باسم الإسلام، وأن المسلم هو ذاك الذي يدين بالإسلام، ولكنه يفصل بينه وبين الدولة مثلاً. وأعتقد أننا اليوم بحاجة لتوصيف لمعنى الدلالة، فبالوسع أن يعتقد كل مسلم أنه إسلامي الرؤية للحياة ما دام يؤمن بالإسلام، وما أظن أحداً من المسلمين المؤمنين بدينهم يقبل أن يقدم لأية مجموعة سياسية تنازلاً عن كونه إسلاميّاً لمجرد أنها تقدم مشروعاً لا يتفق معه، ومن ذا يحكم على أن هذا المشروع أو ذاك يطابق فهم الإسلام للمشروع المعني أو يرفضه؟ وإن بدا الأمر متعلقاً بموضوع وشكل الجامعة الرابطة بين أفراد المجتمع، فقد ذاقت الأمة ما يكفيها من صراعات بين دعاة الجامعة الإسلامية ودعاة الجامعة القومية، وقد اشتد صراع الجامعتين منذ أن سقطت الدولة العثمانية، وتوصل الفريقان بعد طول صراع امتد على مدى القرن العشرين إلى تشكيل مؤتمر قومي إسلامي، يجد الحلول الممكنة لإزاحة أوهام ذاك الصراع الذي استنفد طاقة الأمة. وكان من الممكن أن يصل المتحاورون أو المتناظرون دون طول جهد ومعاناة كبيرتين إلى الترابط العميق بين العروبة بوصفها جسداً، وبين الإسلام بوصفه روحاً، وقد يرفض بعض الناس هذه الروح، وعلينا أن نتقبل رفضهم، لأنه ليس من حق أحد أن يقهر أحداً على فكر أو رأي، ومحرم في ديننا الإسلامي أن نكره الناس على أن يكونوا مؤمنين. وقد أعلن كبار دعاة القومية العربية أنهم يؤمنون بتلازم العروبة والإسلام، وقال بعض كبارهم وهم على كرسي سلطتهم "إن العروبة والإسلام وجهان لعملة واحدة" ولم يجد حزب البعث على سبيل المثال بوصفه أهم حزب قومي تولى السلطة في بلدين عربيين مهمين أكثر من نصف قرن، إجابة مقنعة عن سؤال يوضح الدلالة في شعاره "ذات رسالة خالدة"، وكثيراً ما كنت أواجه هذا السؤال حتى في المنتديات الثقافية فأجيب بحريتي، لكوني لست منتظماً في هذا الحزب أو ذاك فأقول "إنني لا أعرف رسالة للعرب لها سمة الخلود غير رسالة الإسلام". ولكن إجابات كثير من أصحاب التنظير الحزبي تذهب بعيداً لتضم تاريخ ما قبل الإسلام وما فيه من قيم ومعارف، وإجابتنا لا ترفض ذلك ما دام الإسلام قد أعلن أن مهمته أن يتمم مكارم الأخلاق، غير منكر على ما سبقه، بل مصدقاً ما بين يديه من قيم وفضائل. وأما إن كان التفريق مرتبطاً بموضوع فصل الدين عن الدولة، فهذه قضية جديدة على الفكر السياسي الإسلامي، ولم تكن ذات يوم في تاريخنا كله موضوعاً إشكاليّاً كما هي اليوم، فالدولة الإسلامية ولدت مدنية، وتشكلت فيها كل أشكال الحكم التي تعرفها البشرية، من ولاية إلى إمارة إلى مملكة إلى سلطنة إلى جمهورية، وعرفت البيعة الفردية والجماعية، كما عرفت التوريث، وعرفت التنافس الانتخابي، كما عرفت الحكم العسكري، والمستبد العادل والمستبد الظالم، وأعتقد أن شكل الحكم اللاحق لعصر النبوة لم يكن دينيّاً في تاريخنا على رحابته، وقد تنوعت أشكاله حتى في عصر الخلافة الراشدة، وبدأ الصراع على السلطة فور وفاة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ولم يكن صراعاً دينيّاً، وإنما هو صراع مدني واضح، وقد بلغ أقصى دنيويته في النهاية الفاجعة لعهد عثمان رضي الله عنه، ثم وصل إلى أسوأ صوره في القرن الهجري الأول يوم قصف الحجاج البيت الحرام ليقضي على ثورة ابن الزبير. وكان الحكم قد دخل مرحلة الوراثة العصبية والعضد في عهد بني أمية واستمر بها العباسيون حتى سقطت دولتهم، ولم يعرف الإسلام على ما أعلم ممالك بنيت على أسس دينية خالصة. أما أن الإسلام كان مرجعية قانونية للروابط بين المسلمين فهذا موضوع آخر يتعلق بكون الغالبية تدين بالإسلام، وتطبق أحكامه في الأحوال الشخصية على المسلمين وحدهم، بينما تطبق على غير المسلمين من أبناء الدولة أحكام الشرعة التي يؤمنون بها، وقد حفظت الدولة المدنية العربية لهم حقوقهم، وكانت مرحلة الدولة في الأندلس قد واجهت بصراحة موضوع الملل والنحل، وكتب فيها بمصداقية وتعمق الإمام الظاهري ابن حزم. وأما ما ساءني فدفعني إلى إثارة هذا الموضوع فهو بداية ظهور مجلات ونشرات تسخف الإسلام، وتثير مشاعر المواطنين في الدول العربية ذات الأغلبية المسلمة. وأعود للتأكيد على أن الدولة المسلمة، لم تكن دينية خالصة، ولم تكن للمسجد فيها سلطة دنيوية كما كان للكنيسة في الممالك المسيحية الأوروبية التي طالبت العلمانية بإنهاء سلطتها على الدولة، وحضور الإسلام التاريخي في حياة الدولة المسلمة بالمعنى العام، كان يشتد حيناً، ويضعف حيناً آخر، وما يروي التاريخ عن كثرة من الخلفاء في عصور الأمويين والعباسيين والأندلسيين يؤكد اتساع الحياة السياسية لهذا الحضور واتساعها لغيابه أيضاً، ولكن الغياب المعني هنا هو عن قصور الحكم وأساليبه وحدها، لأن الإسلام بقي حاضراً في نفوس الناس، وهم يعيشونه في حياتهم العادية والاجتماعية بعيداً عن شكل الحكم وأسلوبه.