التفتنا منذ سنوات بعيدة قبل قيام ثورة يناير وبالتحديد عام 2004، إلى أهمية تجمع كل التيارات السياسية في البلاد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، المعبرة عن مختلف القوى الاجتماعية، على ضرورة الإصلاح الشامل، أو بعبارة أدق التغيير الاجتماعي المخطط. وليلاحظ القارئ أنني استخدمت مصطلح الإصلاح الشامل ولم ألجأ إلى مصطلح الثورة لأننا -في هذا الوقت- سواء في مصر أو في العالم العربي، كنا نعيش حقبة "التحول الديمقراطي"، التي تعني الانتقال التدريجي من خلال الإصلاح لا الثورة، من السلطوية إلى الديمقراطية. كانت فكرة الثورة في الواقع بعيدة عن أذهان المفكرين والسياسيين. وإن كانت هذه الفكرة طافت بأذهان البعض باعتبارها سيناريو افتراضيّاً يهب فيه سكان العشوائيات ليقوموا بثورة الجياع احتجاجاً على حياة البؤس الشامل التي يرسفون فيها، وضد القمع السياسي والتهميش الاجتماعي في الوقت نفسه. ويمكن القول إن فكرة قيام ثورة سياسية كانت فكرة بعيدة عن التصور. غير أن المعجزة حدثت بالفعل بحكم جسارة فريق من شباب الناشطين السياسيين المصريين الذين مارسوا في مدوناتهم بجرأة شديدة النقد العنيف للممارسات المنحرفة لنظام مبارك، ثم انتقلوا من بعد إلى الفيسبوك ليحتشدوا إلكترونيّاً في الفضاء المعلوماتي الواسع الذي لا تحده قيود ولا حدود، للتخطيط لانتفاضة جماهيرية يوم عيد الشرطة في 25 يناير، التي تحولت في لمح البصر إلى ثورة شعبية بحكم التحام ملايين المصريين من كافة الطوائف الاجتماعية بها. وإذا عدنا إلى الطرح الفكري الذي قدمته عام 2004 في مقالي الذي أشرت إليه، أجدني قد ركزت على مفهوم "الرؤية الاستراتيجية" باعتباره أصبح يستخدم في الأدبيات السياسية الحديثة، بديلاً عن مفهوم "المشروع القومي" ويُعنى بها مجموع السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يتبناها نظام سياسي ما في فترة ربع القرن القادمة. وإذا حاولنا أن نعرّف تعريفاً دقيقاً الرؤية الاستراتيجية لقلنا إنها -وفق أحد المصادر العلمية الموثوقة- "صورة ذهنية لما ينبغي أن يكون عليه عالم المستقبل. وبلورة الرؤية الاستراتيجية ينبغي أن يسبقها التنبؤ بتطورات الواقع الحالي لتقدير الصورة التي سيتشكل عليها المستقبل. ومن المهم التركيز على أن الرؤية الاستراتيجية تساعد في توجيه صياغة الاستراتيجية المقترحة لتحقيق التنمية المستدامة وفي تنفيذها على السواء. وهي تجعل الاستراتيجية تتسم بالمبادرة بدلاً من أن تكون مجرد رد فعل للمستقبل. وحين وصلتني نسخة من البرنامج المقترح للمترشح عمرو موسى المرشح لمنصب رئيس الجمهورية، تذكرت كتاباتي المتكررة عن أهمية وضع رؤية استراتيجية لمصر، حتى لا نقع في مجال العشوائية التنموية والقرارات غير المدروسة، وقطعاً لحبال الفساد المتشابكة التي عادة ما تتحكم في عملية صنع القرار، لصالح القلة من أهل السلطة المتحكمين ورجال الأعمال الفاسدين، على حساب الجماهير العريضة التي تناضل كل يوم في سبيل الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، وهي الشعارات الكبرى لثورة 25 يناير الرائدة. وحين طالعت بإمعان أوراق البرنامج الذي وضع له عمرو موسى عنوان "إعادة بناء مصر: رؤيتي للجمهورية الثانية"، أدركت على الفور أنه تطبيق خلاق لمفهوم الرؤية الاستراتيجية، والذي يمكن بناء على التنفيذ الدقيق لمفرداتها أن تحقق النهضة التي نرجوها لبلادنا العزيزة. ولم أندهش كثيراً لتوفيق عمرو موسى في التركيز على مفهوم الرؤية الاستراتيجية، وتفصيل ما يراه من أفكار متعددة لتحقيقها على أرض الواقع. فقد تابعتُ منذ سنوات مسيرته منذ أن كان سفيراً مرموقاً وطموحاً في الخارجية، إلى أن أصبح وزير خارجية مصر، حيث احتل مكانة متفردة بين من شغلوا هذا المنصب من قبل، مما أضفي عليه جماهيرية شعبية واسعة. غير أن عمرو موسى، بالإضافة إلى ذلك، كان معنيّاً منذ وقت مبكر بالتفكير الاستراتيجي. ويشهد على ذلك حرصه على الاشتراك في المؤتمر -الاستراتيجي العربي الأول الذي انعقد في عمان من 15-17 سبتمبر 1987 وهو المؤتمر الذي اقترحت فكرته، بعد أن أصدرنا في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الأهرام "التقرير الاستراتيجي العربي عام 1986". وكان هذا التقرير هو الخطوة الأولى لتنفيذ مشروع متكامل يتمثل في السعي المخطط لإنشاء جماعة عربية للأمن القومي تتكون من الباحثين في الاستراتيجية والدبلوماسيين وضباط القوات المسلحة. وقد شارك في وفد المركز الذي سافر إلى عمان السفير -وقتها- عمرو موسى الذي كان في ذلك الوقت مدير الهيئات الدولية بوزارة الخارجية. وأتذكر حتى الآن أداءه رفيع المستوى في المؤتمر، حين تناول بالتفنيد عدداً من الملاحظات النقدية التي وجهت إلى سياسة مصر الخارجية. ومن هنا يحق لنا القول إن البرنامج الرئاسي لعمرو موسى ليس وليد لحظة قراره بترشيح نفسه لمنصب رئيس الجمهورية، ولكنه حصيلة اهتمام قديم بالتفكير الاستراتيجي بالمعنى الشامل لكلمة الاستراتيجية، التي لا تتفصل أبداً عن معنى التنمية بمعناها الشامل. وأريد لكي أدلل على هذه الحقيقة أن أركز على عدد من الأفكار المحورية التي صدّر بها عمرو موسى برنامجه الطموح لإعادة بناء مصر. ففي السطور الأولى لمقدمة البرنامج نراه يؤكد أن الجمهورية الثانية التي يتمنى قيادتها، ينبغي أن تكون ديمقراطية دستورية، وتقوم على مبادئ ثورة 25 يناير وتتأسس بناء على حركة تغيير ثورية فعالة. وتقوم رؤية عمرو موسى على أساس ثلاثة بنود رئيسية هي الديمقراطية والتغيير والتنمية. وفي تطبيق دقيق لنظرية "الرؤية الاستراتيجية" يقرر بكل وضوح "إن رؤيتنا يجب أن تعتمد المتبقي من النصف الأول من القرن إطاراً زمنيّاً لتحقيق طفرة حقيقية في حياة مصر والمصريين". ويضيف "إن واحداً من العناصر الأساسية في بلورة أهداف تلك الرؤية هو توقع أن يصل عدد سكان مصر إلى مئة مليون نسمة في العقد القادم، وإلى مئة وخمسين مليوناً أو يزيد بحلول عام 2050 (طبقاً لمؤشرات الزيادة السكانية). وهو أمر يجب الإعداد له منذ الآن في مختلف مناحي الحياة المصرية. ويأتي على رأس ذلك التعليم والصحة والبحث العلمي، وكذلك تعبئة الثروة الوطنية من الزراعة وإمكانيات توسعها، والصناعة والتكنولوجيا وحركة تعميقها وتنويعها وتوزيعها، والسياحة ومضاعفتها وغير ذلك من مجالات الحياة. ويضيف التزامه القاطع برفع راية المواطنة أساساً للوطنية المصرية والمنع الحاسم للتمييز بين المصريين وأن يشرّع ذلك في الدستور، ويركز من بعد على إثراء "القوة اللينة" لمصر وإحياء البحث العلمي واستعادة الزخم الفكري والروحي المصري في الآداب والعلوم والفنون. ويعطي أهمية خاصة للحفاظ على الأمن القومي المصري بكل عناصره السياسية والاقتصادية. وينهي عمرو موسى مقدمة برنامجه ومهامه، بأنه يعكس طموحات وآمال شعب مصر في مشروع جاد للنهضة، ويطرح "برامج وخططاً لتحقيقها في إطار من الواقعية التي تحصنها من تقديم الوعود الزائفة أو القفز إلى المجهول، ومن الإفراط في التفاؤل المضلل أو التشاؤم المثبط للهمم". هكذا تحدث عمرو موسى في مقدمة برنامجه المهم، وتبقى لنا قراءة ثانية في مفردات البرنامج، لنعرف هل كان واقعيّاً في رسم خطوات التغيير المرغوبة، وهل اعتمد على تشخيص دقيق لمشكلات الحاضر تمهيداً لوضع ملامح المستقبل؟ أسئلة تستحق أن نتابع من بعد إجاباتها المتعددة.