في السابق عكفت الدول الفقيرة في النفط والغنية بالفحم الحجري مثل ألمانيا إلى تطوير ما يسمى بالوقود المصنع الذي يعتمد على إسالة الوقود واستخراجه من مصادر الطاقة التقليدية مثل الفحم الحجري والنفط والغاز الطبيعي، إلا أن مثل هذه المشروعات سرعان ما تم إهمالها في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي تميزت بانخفاض أسعار الوقود، لكنها عادت مجدداً اليوم إلى الواجهة بعد ارتفاع أسعار الوقود في الأسواق العالمية وتصاعد الدعوات بضرورة الحد من الاستهلاك وتحقيق الاستقلالية في مجال احتياجات الطاقة. ورغم ما انطوت عليه عملية تطوير الوقود المصنع من صعوبات وكلفة مالية عالية، فإن الاعتقاد السائد كان هو قرب انتهاء حقبة النفط، وأن الخيارات جميعها مطروحة في حرب الطاقة المشتعلة سعياً وراء تأمين مصادر جديدة لضمان تغذية الاقتصاد واستمراره، وقد سمعت شخصياً تحذيرات من مستقبل الطاقة القاتم في العالم خلال زيارة قمت بها إلى السعودية ساعد في ذلك الأسعار المرتفعة للنفط خلال سبعينيات القرن الماضي وبلوغ الأسواق العالمية حد التخمة بفعل تكديس الاحتياطات والكف عن الشراء بسبب صعود الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة. لكن ما حدث بعد ذلك كان رجوع الأسعار إلى مستويات معقولة، بل تهاويها في الأسواق العالمية خلال الثمانينيات. ومرة أخرى تم تأجيل مشروعات الوقود المصنع بعد التدفق الكبير للنفط في الأسواق وبأسعار منخفضة، وهكذا رأينا كيف أغلقت آبار النفط في هذه الفترة أبوابها من تكساس وبحر الشمال إلى الشرق الأوسط، وتم تسريح العمال بعدما ارتفعت كلفة الإنتاج ومصاريف تطوير الحقول وتراجعت العائدات النفطية. وظل الأمر على ما هو عليه حتى العقد الأول من القرن الحالي عندما عادت أسعار النفط إلى الارتفاع مجدداً مدفوعة بزيادة الطلب العالمي، لا سيما في الدول الناشئة مثل الهند والصين، وباقي الاقتصادات الصاعدة الباحثة عن الطاقة. ومرة أخرى نشبت حرب طاقة جديدة وبدأت التصورات تتوالى حول سبل تحقيق الاستقلال في مجال تلبية الاحتجاجات المتصاعدة من الطاقة في البلدان المتقدمة، وذلك من خلال تطوير البدائل وكسر الإدمان على المصادر التقليدية. وهكذا بدأ الحديث عن الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة المائية والحرارية، بل حتى الطاقة النووية في محاولة على ما يبدو لإنتاج طاقة رخيصة لاستمرار الاقتصاد العالمي، لكن ما نشهده اليوم هو حالة فريدة من نوعها بحيث تشعبت مصادر الإمدادات التقليدية وتفرقت بها السبل بين المصادر النفطية التي ما زالت أسعارها مرتفعة وتعتمد بشكل أساسي على دول أجنبية، وبين الغاز الطبيعي الذي برز في السنوات الأخيرة باعتباره الأمل المتبقي أمام حلم تحقيق الاستقلال في تأمين الاحتياجات الغربية في مجال الطاقة. وكما أشار إلى ذلك الكاتب "أليكس ماركس" في تقريره، فقد أصبح الغاز الطبيعي متوافراً بكثرة وبأسعار رخيصة إلى درجة أنه غير جوهرياً آفاق الطاقة ومستقبلها في الولايات المتحدة، هذا التطور في استخراج الغاز الطبيعي والوفرة التي بات عليها اليوم هي نتيجة التقنيات الجديدة المتمثلة في الحفر الأفقي واستخدام الطاقة المائية في النفاذ إلى الصخور، لا سيما وأن الفكرة من وراء الاكتشافات الجديدة لاحتياطات الغاز الطبيعي قائمة على أن الغاز موجود بكميات كبيرة في تشكيلات صخرية تحت الأرض كانت في الأزمان الغابرة نباتات وبقايا حيوانات. ومع أن هذه التقنيات الجديدة تثير بعض المخاوف بشأن تلويث المياه الجوفية وغيرها، تبقى أخطارها أقل بكثير من احتمال انفجار بئر نفطية في أعماق البحار، أو انهيار مفاعل نووي. وهكذا يمكن للغاز الطبيعي إعطاء فرصة جديدة للولايات المتحدة وباقي الدول لكسب عدة عقود من الطاقة النظيفة والرخيصة في الآن نفسه، بمعنى آخر نحن بصدد تراجع حرب الطاقة، على الأقل في اللحظة الراهنة، لكن قبل وضع الأسلحة علينا التذكير بأن الأمر يتعلق فقط بمهلة زمنية قد لا تتجاوز نهاية القرن الحالي قبل أن تصل حقبة النفط والغاز الطبيعي إلى منتهاها، فالاستهلاك المتواصل لا شك أنه سيؤدي إلى نضوب المصادر الحالية، وستصبح عملية تطوير الحقول أصعب والأسعار أغلى، فماذا بعد ذلك؟ معروف أن الوقود المصنع الذي يعتمد على الفحم الحجري مصدر غير نظيف، كما أن الطاقة النووية مخاطرها واضحة، وحتى المصادر المتجددة للطاقة لم تُظهر حتى الآن قدرتها على دعم الاقتصاد العالمي وتوفير كل احتياجاته من الوقود، لا سيما في ظل الاستهلاك المتنامي للطاقة، لذا يبقى سلاح الوقت الذي تضمنه شعلة النار الزرقاء المميزة للغاز الطبيعي أهم ما لدينا اليوم لكسب حرب الطاقة ولو مؤقتاً، وهو ما يحتم علينا استخدامه جيداً طيلة الفترة المتبقية لاكتشاف بدائل جديدة قبل نهاية عصر الوقود الأحفوري بأشكاله المختلفة. جون ييما كاتب أميركي متخصص في شؤون الطاقة ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"