تبدأ سيرة ميت رومني، المرشّح الجمهوري للرئاسة الأميركيّة، بأبيه جورج ميلكن رومني. فالأخير الذي كان مديراً تنفيذيّاً في قطاع صناعة السيّارات، صار قطباً جمهوريّاً وسطيّاً، وبصفته هذه دخل السياسة من أبواب عريضة. فقد تولّى حاكميّة ولاية ميتشيغن في 1963، ليغدو، بعد عام، مرشّحاً رئاسيّاً محتملاً عن الجمهوريّين في مواجهة صقر الحرب الباردة باري غولدووتر. لكنّ رومني الأب، مدفوعاً باستقامةٍ مصدراها دينيّ وشخصيّ، ارتكب خطأ كان كافيّاً للقضاء على حظّه السياسي. فقد تعهّد بأنّه، في حال انتخابه رئيساً، لن يحكم إلاّ لولاية واحدة من أربع سنوات، أي أنه سيحرم حزبه من ولاية ثانية تكون شبه مضمونة لمن يصير رئيساً. هكذا استبعد وحلّ محله في قيادة التيّار المعتدل للجمهوريّين نيلسون روكفلر ووليم سكرانتون. لقد كان رومني الأب عنيداً في مبدئيّته. فقد اتهم غولدووتر بمعاداة الحقوق المدنيّة، واحتجاجاً منه على ذلك قاطع أعمال الحزب الجمهوريّ. أمّا "خطؤه" الأفدح فحدث حين كان يتأهّب لخوض معركة 1968 الرئاسيّة. ذاك أنه بعد زيارة له إلى فيتنام حيث تفقد الجنود الأميركيّين هناك، صرّح لمحطة تلفزيونيّة بأنّ جنرالات بلاده عملوا على "غسل دماغه" في ما خصّ الحرب ومجرياتها العسكريّة. بهذا اصطدم جورج رومني بالنزعة القوميّة العسكريّة في لحظة سُعارها، رافضاً أن يتراجع عن قوله هذا. بعد ذلك عمل في إدارة ريتشارد نيكسون وزيراً للإسكان والتنمية المدنيّة خلال 1969-1973، ولكنّ مشاكساته كانت كثيرة كما اصطبغت علاقته بالرئيس بتوتر دائم. وهذا كان آخر أدوار جورج رومني البارزة في الحياة العامّة. نجله ميت رومني، الذي سيواجه أوباما في نوفمبر المقبل، ينتمي إلى صنف آخر من البشر. فهو، وقد كان قريباً جدّاً من أبيه وشديد الاعتزاز به، استنتج من تجربة الوالد أنه لا جدوى من العناد والمبدئيّة. فهو يريد الوصول إلى رئاسة لم يصلها أبوه، ولكنْ إذا كانت وسائل الأب قد اعترضت هدفه، فإنّ الهدف، عند النجل، إنما يبرّر الوسائل. فهو تعلم من فشل مثاله الأعلى أن يسعى وراء النجاح في أكثر تأويلاته الأميركيّة تطرّفاً وابتذالاً، كما تعلم ألا يكون عنيداً. وميت رومني، قبل أيّ شيء آخر، ابن القطاع الخاص، لا ابن الإدارة والبيروقراطيّة. فهو لم يتسلم منصباً رسميّاً إلا مرّة واحدة، بوصفه حاكماً لولاية ماساشوستس ما بين 2003 و2007. إلا أنّ عمله في القطاع الخاص لم يكن ناصعاً. ففي وقت يعود إلى 1989 كسب، لدى عمله في "باين إند كومباني"، وهي مجمّع للاستثمارات والاستشارات المتعلقة بالاستثمارات، أموالاً مطعوناً في شرعيّتها، خصوصاً وقد ترافقت مع إفلاسات كثيرة ومع فقدان الكثيرين أعمالهم بسبب النشاط الماليّ للشركة ذاتها. أمّا في السياسة فخسر في ماساشوستس، في 1994، أمام القطب الديمقراطي إدوارد كينيدي. لكنه وصل إلى موقعه هناك، في 2003، كحامل لأفكار ومواقف يخالف فيها المتطرّفين الجمهوريّين. وكان أهمَّ ما أقدم عليه مشروعٌ للضمان الصحّي قيل إنه شكل مصدر استلهام لاحق لأوباما. فقد أمّن المشروع تغطية أوسع في الولاية، لكنه لم يتحدّ قوّة شركات الضمان الخاصّ ولا أحدث أيّة تغييرات في الحصول على العناية الصحـية التي تعدّ أكلافها في ماساشوستس من أعلى أكلافها في الولايات المتحدة. بيد أنه انتقد، في 2006، لقضائه ثلثي وقته خارج ولاية بوسطن، إذ كان يستعد للحصول على ترشيح الجمهوريّين له لمعركة 2008 الرئاسية. ولقد فشل ميت في مسعاه هذا، إلاّ أنه أعطى عامذاك إشارة قويّة إلى مدى اختلافه عن مبدئيّات أبيه. فمع صعود سارة بالين، إبّان مؤتمر الجمهوريّين في "سان بول"، حدثت انعطافة يمينيّة في الحزب الجمهوري في ما خصّ الإجهاض وحقوق المثليّين والأبحاث الجينيّة. لكنّ رومني لم يغادر صفوف الحزب كما فعل أبوه احتجاجاً على غولدووتر، بل راح يحابي هذا الجموح اليميني ويسايره آملاً بكسبه وتجييره. وعموماً دلّل ميت رومني على طباع وشخصيّة رخوة، إن لم تكن انتهازيّة. فقد تنصّل من إنجازه الوحيد، وهو برنامجه للرعاية الصحية في ماساشوستس. وبعدما زايد على إدوارد كينيدي في 1994، دفاعاً عن حقوق المثليّين، تراجع عن مواقفه تلك. وكذلك غيّر موقفه من الإجهاض عدّة مرّات. على هذا النحو، وبهذه التنازلات، استوى مرشّحاً للمؤسّسة الرسميّة للحزب الجمهوري، يؤيّده قادتها البارزون كجون ماكين وحاكم نيوجيرسي كريس كريستي والرئيس الأسبق بوش الأب. أمّا المحافظون الجدد، كالصحفي وليم كريستول، فيكرهونه، من موقع عقائديّتهم، ويكيلون له النقد القاسي. فهو يوصف بالبراغماتيّة ويرسمل على صيته كمعتدل، على رغم تطرّفه في السنوات الأخيرة محاولة منه للحاق بالانزياح اليميني لحزبه. ويقال كذلك، وعلى جاري الطريقة الأميركيّة، إنّه ناجح وذكيّ وشغيل ومستقيم، لكنه متعالٍ عن العامّة وذو طبع أوامريّ. وكذلك يؤخذ على رومني افتقاره إلى نبرة خاصّة به، وتركيزه على عموميّات جمهوريّة، خصوصاً منها التحذير من أنّ أوباما "يبني دولة رفاه على النمط الأوروبي"، وأنه متى استطرد في الكلام شارحاً موقفه، تداخلت المستويات وضاع الغثّ في السمين. وأحد عناوين ميت رومني الكبرى أمواله. ذاك أنّ الثروة الهائلة التي راكمها، بما في ذلك أرباحه التي بلغت 45 مليون دولار خلال 2010-2011 والتي اضطرّته منافسته مع نيوت جينجريتش للتصريح عنها، إنما حققها في مجال الاستثمار بالأسهم. والثراء هذا أبقاه، على أيّة حال، عرضة لهجوم شعبوي حاول أن يستثمره جينجريتش، خصوصاً في المعركة الحزبيّة التي شهدتها كارولينا الجنوبيّة. ولكنّ من الغرائب الأميركيّة أنّ ثمّة جمهوريّين اعتبروا انتقادات جينجريتش ذات نفَس ماركسيّ!، فضاعفوا تأييدهم لرومني. والحاسم في مجال السياسات الاقتصاديّة أنّ الأخير نصير لسياسات التمييز الطبقي الحادّة، على عكس أبيه الذي عُرف بمعارضته تقديم العلاوات السمينة لمديري الشركات. فسياسة ميت رومني الضريبيّة تلغي من الضرائب على الأغنياء ثلاثة أضعاف ما ألغاه جورج دبليو بوش في 2000، كما تزيد الضرائب على الفقراء مؤدّية إلى رفع العجز 600 مليار دولار إضافيّة.