كان أوباما على صواب عندما أعلن في الأسبوع الجاري إطلاق جهود جديدة لمراقبة البؤر الساخنة حول العالم ومنع المجازر والفظاعات قبل أن تحدث، لكن ماذا عن الأهوال اليومية التي تجري في سوريا حيث تتراجع فرص نجاح خطة أممية لوقف إطلاق النار يوماً بعد يوم، فيما العالم يقف متفرجاً ومستنكفاً عن التدخل، في هذه الحال فإن درساً من التاريخ يفرض نفسه ويدعونا لاستذكاره. ففي 11 مايو 1993 تم التوقيع بإحدى المنتجعات القريبة من أثينا على خطة سلام تهدف إلى إنهاء الحرب البوسنية المشتعلة في وسط أوروبا، وحسب الخطة كان يتعين علن صرب البوسنة وقف قصفهم لسراييفو، حيث يقاسي المسلمون البوسنيون من حصار امتد لسنة كاملة، وكانت الفكرة الداعمة لإمكانية نجاح الخطة هي احتمال تدخل القوى الغربية عسكرياً لضمان تطبيق وقف إطلاق النار. وهكذا انطلقت المفاوضات عام 1993 بين وزير الدفاع الأميركي وقتها، "وارين كريستفور"، والحلفاء الأوروبيين حول مدى استعداد الولايات المتحدة للتدخل العسكري، لكن بدلاً من إبداء أميركا التزامها الواضح بضمان تطبيق الاتفاق من خلال إرسال قوات عسكرية دار الحديث عن مدى قدرة الأوروبيين على تحمل هذا العبء فيما يشبه القيادة الأميركية من الخلف وفقاً للتعبيرات الحالية، غير أن الأوروبيين وبعدما استشعروا عدم رغبة كلينتون في التدخل العسكري بعد صعوده إلى السلطة وبناء برنامجه على الاقتصاد عبر الأوروبيون أنفسهم عن التحفظ والامتناع عن إرسال قوات إلى البوسنة لرعاية خطة السلام، كما اتُفق عليها بين الأطراف المتصارعة. هذا التحفظ الغربي شجع برلمان صرب البوسنة على رفض الاتفاق بعد أسبوع واحد على التوقيع عليه ليواصل الصرب قصفهم لبلدات المسلمين والزحف عليها ثم طرد سكانها. ولم تحدث النقلة النوعية إلا في يوليو 1995 عندما قتل صرب البوسنة أكثر من سبعة آلاف مسلم في سريبرينتشا، وهي اللحظة التي قرر فيها الغرب التحرك لوقف المجازر، في تلك المرحلة حسم كلينتون موقفه بالتدخل العسكري وقيادة العمليات، فاستخدم حلف شمال الأطلسي سلاح الجو لوقف هجمات الصرب على سراييفو، وخلال شهر واحد وافق على إرسال قوات لرعاية اتفاق "دايتون" الذي رعاه الدبلوماسي المخضرم ريتشارد هولبروك. وبحلول ديسمبر 1995 كان حوالي 60 ألف جندي من قوات "الناتو" يشقون طريقهم في اتجاه البوسنة لتطبيق اتفاق السلام، 20 ألفاً منهم من الجيش الأميركي، فما الفرق بين ما حصل في مايو 1993 ويوليو 1995؟ الحقيقة أن لا شيء تغير فيما يتعلق بالتدخل الغربي، لأنه ما جرى في 1995 كان يمكن القيام به في 1993، لكن بحساب الكلفة البشرية خسر الآلاف من الأبرياء أرواحهم، والأمر لا يقتصر على البوسنة، بل شهدنا على مدار العقود الأخيرة تدخلاً خارجياً لوقف عدد من المجازر سواء في البوسنة نفسها، أو في كوسوفو والعراق وليبيا بالإضافة إلى حالات أخرى. ومع أن نتائج التدخل قد لا تكون مثالية في جميع الأحوال، إلا أنها ساهمت في إنقاذ حياة الناس وهيأت الظروف للوصول إلى تسوية سلمية، هذه هي الرؤية التي يتعين استحضارها ونحن نتعامل مع الأزمة السورية المستمرة، وللتذكير فقط تكتسي جميع الدفوعات المعارضة للتدخل في سوريا قدراً من الوجاهة، فالتدخل إما صعب بسبب قوة الجيش السوري، أو بسبب التعقيدات الإقليمية وانخراط إيران وروسيا، أو التساؤل عما سيأتي بعد النظام واحتمال اختطاف الثورة وغيرها من المخاوف، وهي نفس الطروحات، مع بعض التعديلات، التي سُمعت من قبل لمعارضة التدخل في ليبيا وكوسوفو والمنطقة الكردية بالعراق والبوسنة وغيرها. لكن السؤال هو ماذا بعد سماع هذه المقولات وفي نفس الوقت استمرار القتل اليومي في سوريا؟ ولنتخيل أنه بعد قصف حمص وبعد ضرب ريف دمشق، وبعد كل ما جرى خلال عام كامل حدث فجأة مجزرة كبرى قُتل فيها خمسة آلاف شخص أو أكثر في ضربة واحدة، لا سيما وأن الأمر حدث من قبل عندما أرسل حافظ الأسد في 1982 قواته إلى مدينة حماة المنتفضة فسقط فيها أكثر من عشرة آلاف مدني، فما هو إذا ذلك الرقم السحري الذي سيحرك المجتمع الدولي ويدعوه إلى التدخل في سوريا؟ فالمبادئ الأخلاقية التي تحث على التدخل لا تعدمها سوريا منها الحملة العسكرية الشرسة ضد كل من يرفع صوته معارضاً للنظام، كما أن الدولة السورية تحتكر كل أسباب القوة من جيش وشرطة وأجهزة أمن واستخبارات مقابل شعب وقف بشجاعة ضد الظلم، إلا أنه لا يستطيع بوسائله البسيطة دفع جبروت النظام، فضلاً عن عدد القتلى الذي تجاوز التسعة آلاف منذ انطلاق الانتفاضة الشعبية. لكن كيف التدخل في سوريا؟ الحقيقة أنه لا يوجد جواب سهل على هذا السؤال، إلا أن الأسوأ من ذلك هو عدم التحرك، فعلى الصعيد السياسي علينا توقع امتناع روسيا وتعطيلها للتدخل في مجلس الأمن الدولي، ما يحتم على العالم الاستعداد للتحرك دون الأمم المتحدة تماماً مثلما حدث في كوسوفو سنة 1999، كما أن مساهمة القوى الإقليمية مهمة مثل تركيا والسعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة. أما على صعيد العمليات، فسيتطلب الأمر ضرب الدفاعات السورية وقدراتها الجوية والتشويش على الاتصالات مع إقامة منطقة آمنة داخل البلد تسمح بتوزيع المساعدات الإنسانية وخلق مكان يمكن فيه للمعارضة الحصول على التدريب وتنظيم نفسها على شاكلة ما حصل في بنغازي بليبيا. لكن ما ينقص حتى هذه اللحظة ليس إدراك ضرورة التدخل ولا الإمكانات المادية والعسكرية لتحقيق ذلك، بل الحافز الذي يدفع إلى استخدام القوة، فلو حصلت مجزرة كبرى ستهب الولايات المتحدة وباقي القوى للتدخل ليجدون أنفسهم في الأخير أمام سؤال جوهري: لماذا لم نتدخل من قبل لمنع ما جرى وتوفير حياة الأبرياء؟ ------- كيرت فولكر سفير أميركي سابق لدى "الناتو" وباحث بجامعة "جونز هوبكنز" -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"