في الثاني والعشرين من هذا الشهر وعلى نحو مفاجئ أُعلِنَ في القاهرة عن فسخ العقد مع الشركة التي كانت تبيع الغاز المصري لإسرائيل، وبذلك توقف رسمياً إمداد إسرائيل بالغاز المصري. لم تكن المفاجأة في الموقف وإنما في توقيته، فأما عن الموقف كانت النخبة المصرية قد خاضت معززة بتأييد واضح من الرأي العام معارك حقيقية وصلت إلى القضاء من أجل هذه الغاية، سواءً لأن تصدير الغاز المصري لإسرائيل في حد ذاته علامة تطبيع بغيضة، أو لأن أسعار التصدير كانت متدنية بشكل لا يُصدَق (يُقدَر أن مصر كانت تبيع ما يكافئ مليون وحدة حرارية من الغاز بثمن لا يتجاوز 1.6 دولار بينما الثمن العادل يتراوح بين 12 و16 دولاراً)، أو لأن مصر كانت أكثر احتياجاً إلى الغاز من أي وقت مضى سواءً لأغراض تنموية باعتباره مصدر طاقة رئيسي للصناعة أو لأغراض الاستخدام المنزلي، وكانت مصر تتحمل مليارات الجنيهات لدعم المواد البترولية التي تضطر لاستيرادها من الخارج بالإضافة إلى دعم المواد المنتجة محلياً. لكن المفاجأة كانت في التوقيت، بمعنى أن القرار قد اتُخِذَ في لحظة غابت فيها الضغوط الشعبية القوية من أجل هكذا قرار، فقد كان "الثوار" مشغولين في "ميدان التحرير" بالضغط من أجل مطالب سياسية داخلية بحتة. حرص الطرف المصري في العقد الملغى على تأكيد أن القرار تجاري بحت وليس سياسياً، وأن سببه هو عدم سداد الطرف الثاني في العقد مستحقات مصرية من بيع الغاز لإسرائيل بلغت ما يقارب 100مليون دولار، وأن مراسلات مع الجانب الإسرائيلي دامت شهوراً من أجل إقناع الشركة الإسرائيلية-الأميركية المستوردة للغاز المصري بالوفاء بالتزاماتها، وعندما أصرت على عدم السداد لم يكن أمام الطرف المصري من خيار سوى فسخ العقد. وقد بالغت الهيئة المصرية العامة للبترول والشركة المصرية القابضة للغازات في التأكيد على الطابع التجاري للقرار بالقول بأنه لا مجلس الوزراء ولا المجلس الأعلى للقوات المسلحة قد علما به، وهي مقولة مستحيلة. ومن الطريف أن الحكومة المصرية قبل الثورة قد أكدت دائماً على الطابع التجاري لعلاقة تصدير الغاز لإسرائيل، وأن هذه العلاقة ليست بين دولتين وإنما بين شركتين (وكأنما الغاز ملكية خاصة للطرف المصري في الاتفاق)، وكان السبب في هذا التأكيد أن الحكومة المصرية آنذاك كانت تريد تجنب أي عرض لعقد التصدير على مجلس الشعب، وها نحن بعد زوال النظام نستفيد من هذا التكييف غير الدقيق في تمرير القرار بأقل استفزاز ممكن لإسرائيل، لأن للقرار أبعاده السياسية التي لا شك فيها، أولاً لأنه كان مطلباً شعبياً ملحاً منذ عقود، وثانياً لأن فرحة الرأي العام المصري به مؤشر جديد على رفض التطبيع مع إسرائيل، وثالثاً لأن ردود الأفعال الإسرائيلية وضعته بالضرورة في إطار سياسي، وهو ما ينقلنا إلى التأمل في ردود الأفعال هذه. من المؤكد أن القرار قد سبب صدمة لإسرائيل ليس بالضرورة لتأثيره على إمدادات الغاز المصري التي تغطي حوالي 40 في المئة من احتياجات الطاقة الإسرائيلية، ذلك لأن إسرائيل بدأت منذ مدة تتحسب لهذا السيناريو، وإن لم يكن بسبب الإلغاء وإنما لتكرار عملية توقف الإمدادات بسبب تفجير الخط الذي يمر فيه الغاز المصري المصدَر لإسرائيل، بالإضافة إلى اقترابها من حالة الاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي في إطار الاكتشافات الجديدة التي سيبدأ الإنتاج منها في أبريل 2013، لكن الصدمة أتت من أن القرار يعبر عن إدارة مختلفة للعلاقات مع إسرائيل، وأنه وجد ترحيباً مصرياً بما يشير إلى أن علاقة العداء تجاه إسرائيل ما زالت قوية، وفي إطار هذه الصدمة برز تياران واضحان أولهما يؤكد على خطورة القرار وأثره على الأمن الإسرائيلي، وعلى أنه يمثل انتهاكاً سافراً لمعاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية (وهو أمر لا أساس له من الصحة لأنه لا المعاهدة ولا ملحقها الخاص بتنظيم العلاقات بين الطرفين يشيران تحديداً إلى تصدير الغاز أو غيره)، ويدعو من ثم إلى التنبه للخطر المصري على إسرائيل ابتداءً من حشد مزيد من القوات على الحدود، وانتهاءً بالدعوة إلى إعادة احتلال سيناء. أما التيار الثاني فهو يعترف بأن فسخ العقد مع إسرائيل مسألة بالغة الخطورة على مستقبل علاقة البلدين، ولكنه يطالب بإعمال العقل، وضبط ردود الأفعال الإسرائيلية، والغريب أن كلاً من رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير خارجيته اللذين ينتميان إلى تيار "اليمين" المتشدد ينتميان إلى هذا التيار. وبين هذين التيارين ظهر من يحاول التقليل من شأن التداعيات السلبية للقرار على إسرائيل، فهذه الأخيرة تتحسب منذ مدة –كما سبقت الإشارة- لتوقف إمدادات الغاز المصري، بل إن البعض قد غالى في القول بأن مصر هي الخاسر الأول من فسخ العقد لأنها ستخسر عملة صعبة تحتاج إليها، وأن الاقتصاد المصري في طريقه إلى مستقبل أسود بعد وقف تصدير الغاز لإسرائيل. ولا يدري المرء ما إذا كان القائلون بهذا يدركون أن مصر قد خسرت كثيراً من هذه العلاقة بسبب تدني أسعار التصدير، وأنها كانت في مسيس الحاجة لإعادة تسعير الغاز كي تحصل على مقابل أكثر عدالة، كما أن الغاز المتوافر من وقف التصدير سوف يحقق دفعة قوية لعديد من المشروعات الصناعية بعد أن يُستبدَل الغاز المصري بمصادر الطاقة الحالية لهذه الصناعات مما يخفض فاتورة استيراد المواد البترولية المختلفة بالأسعار العالمية، ويحقق لمصر وفراً هائلاً. أما الشعب المصري فقد بلغت فرحته بالقرار مبلغها، لأن وقف تصدير الغاز لإسرائيل كان مطلباً شعبياً منذ عقود، رفضاً لتطبيع العلاقات معها والتبعية المصرية المغلفة لإسرائيل بعد أن اتضحت الأسعار المتدنية التي يتم بها التصدير، وأملاً في حياة أفضل طالما مصر تتعرض لأزمات ممتدة في المواد النفطية الخاصة بالاستهلاك المنزلي، ومع ذلك فقد كانت هناك قلة من أنصار "المعارضة الدائمة" ذهبت –على الرغم من أنها من معارضي التصدير- إلى أن توقيت القرار كان خاطئاً لأنه يجئ في وقت ارتباك سياسي هائل في مصر، وكالعادة روج بعضهم لفكرة أن القرار صدر عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة باعتباره لا يفعل أي شيء سوى اختلاق الأزمات لتمديد بقائه في السلطة، وكلها أفكار لا أساس لها. وربما بالنظر إلى هذه الفرحة الشعبية بالقرار يضع البعض -وربما الكثيرون- أيديهم على قلوبهم قلقاً من تكرار سيناريو المتهمين الأميركيين التسعة عشر في قضية منظمات المجتمع المدني التي تلقت تمويلاً خارجياً مباشراً دون استئذان الحكومة المصرية، وكيف سُمح لهؤلاء بالسفر بعد وقفة "عنترية" ضد الإدارة الأميركية، كذلك تخوف البعض من تصريحات وزيرة التخطيط والتعاون الدولي بأن مصر على استعداد لتوقيع اتفاقية جديدة ولكن بشروط أخرى، وهو ما اعتبره تحركاً دبلوماسياً محسوباً لنفي الطابع السياسي للقرار، وفرض شروط تعجيزية على إسرائيل في أية مفاوضات مقبلة. كذلك يتخوف البعض من إمكانية الضغط الأميركي لإلغاء القرار سواءً كرد فعل للمصالح الأميركية التي أضيرت بسببه أو تحسباً لآثاره السلبية على معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية، ولا شك أن الضمان الحقيقي للقرار هو الشعب المصري بمختلف قواه السياسية الذي رحب بإلغاء العقد إلى أبعد الحدود ولا يمكن أن يسمح بعودة العلاقة بهذه البساطة.