وجه لي بعض قرائي الكرام نقداً مؤداه أنني حتى الآن قنعت بالتشخيص الدقيق لمظاهر الأزمة السياسية الكبرى التي تمر بها بلادنا في الوقت الراهن، بدون أن أقدم مقترحات بصدد كيفية الخروج منها وفق خطة منهجية مدروسة يمكن أن تتوافق عليها كافة القوى السياسية. وعلى رغم علمي أن هذا مطلب عسير للغاية نظراً لتشابك خيوط المشهد السياسي وتعقدها من ناحية، وبروز التناقضات الأساسية بين القوى السياسية المختلفة، إلا أنني سأحاول الاجتهاد في هذا المجال. وربما كانت البداية الصحيحة هي محاولة تحليل الشعارات التي رفعتها مختلف القوى السياسية في المليونية الحاشدة التي شاركت فيها جماهير متعددة متنوعة الاتجاهات الإيديولوجية يوم الجمعة الماضي. ويبرز في صدارة مشهد ميدان التحرير أنصار حازم أبو إسماعيل الذين ابتدعوا هم وزعيمهم صورة جديدة من صور "البلطجة" السياسية الممقوتة والمرفوضة والمضادة للقانون. فهم لم يكتفوا بمحاصرة مقر اللجنة العليا لانتخابات الرئاسة، وذلك لممارسة الإرهاب المعنوي على أعضاء اللجنة من كبار القضاة، ولكنهم تظاهروا واعتصموا أمام مقر اللجنة بعد صدور القرار النهائي باستبعاد حازم أبو إسماعيل من انتخابات الرئاسة، في ضوء وثائق رسمية دامغة صادرة من الولايات المتحدة الأميركية تشهد أن والدة المرشح سبق لها أن اكتسبت الجنسية الأميركية. ومن الغريب أن المرشح المستبعد ذهب إلى مقر اللجنة مطالباً أنصاره بالاعتصام بعد أن رفض قرار اللجنة، وليس ذلك فقط بل إن أنصاره توجهوا إلى ميدان التحرير للاشتراك في المليونية، وقرروا الاعتصام ورفعوا شعارات فوضوية، أبرزها حل اللجنة العليا لانتخابات الرئاسة، وإلغاء المادة 28 التي تحصن قراراتها من الطعن عليها. وإذا انتقلنا إلى تأمل باقي جوانب المشهد في ميدان التحرير فسنجد جماعة "الإخوان المسلمين" تشارك بقوة، مع أن قادتها سبق أن أنكروا "شرعية الميدان" وقالوا إن "شرعية البرلمان" هي الأساس، وخصوصاً بعد أن نجحوا في الحصول على أكثرية المقاعد في مجلس الشعب والشورى. وقد غير قادة جماعة "الإخوان المسلمين" مواقفهم المعلنة -وقد أصبح ذلك ممارسة عادية عندهم- بعد أن صدمهم قرار اللجنة العليا لانتخابات الرئاسة باستبعاد "الشاطر" لأسباب قانونية معروفة. إلا أنهم كانوا -والحق يقال- جاهزين بالمرشح الاحتياطي الدكتور المرسي. وكان شعار المرشح الأصلي خيرت الشاطر هو مشروع النهضة على أسس إسلامية، أما المرشح الاحتياطي فقد أعلن أن شعاره: "الإسلام هو الحل"، وكل هذه الشعارات في الواقع فارغة من المضمون كما وصفناها من قبل، لأنها لا تحمل رؤية استراتيجية واضحة. ولو نظرنا للشعارات الأخرى التي رفعتها باقي القوى السياسية لاندهشنا من الشعار الذي يقول "لا لوضع الدستور تحت حكم العسكر"! وهذا في الواقع مضاد تماماً لخطة الطريق الواضحة التي وضعها "المجلس الأعلى للقوات المسلحة"، وتتمثل في تنظيم انتخابات مجلسي الشعب والشورى، وتشكيل لجنة تأسيسية لوضع الدستور، وإجراء انتخابات رئاسة الجمهورية. غير أن جماعة "الإخوان المسلمين" عوقت هذه المسيرة بحكم رغبتها الجامحة في الاستئثار باللجنة وإقصائها لفئات عديدة ممثلة للشعب المصري، وفي مقدمتها فقهاء الدستور البارزون الذين فضلت عليهم مجموعات من غير ذوي الثقافة القانونية والخبرة، بل إن بعضهم يعمل بالسياسة لأول مرة في حياته. ويحار المرء في الشعارات التي رفعتها بعض القوى السياسية خصوصاً فيما يتعلق بإلغاء المادة 28، مع أن حكمة المشرّع الذي صاغها كانت بالغة، لأنه لو فتح الباب أمام الطعن في قرارات اللجنة فإن صوراً عديدة من التنطع السياسي كانت ستظهر من قبل الذين لم ينجحوا في الانتخابات، وستقدم الطعون الشكلية والموضوعية، مما سيؤدي بالضرورة إلى عدم استقرار المركز القانوني لمن فاز بالرئاسة، وهو وضع لا يمكن أن يكون مقبولاً، لأنه سيؤدي إلى عدم استقرار سياسي يضاف إلى كل الظواهر السلبية التي نشاهدها في البلاد. كيف السبيل للخروج من هذا النفق المظلم؟ ليس هناك سوى التشبث بخريطة الطريق التي تم الاتفاق عليها. بمعنى ضرورة الانتهاء من وضع الدستور في أقرب فرصة، بعد انتهاء حزب "الحرية والعدالة" وحزب "النور السلفي" من كل المماحكات التي تهدف إلى عدم تمثيل طوائف الشعب المصري بالكامل في اللجنة. غير أن هناك عقبات قد تحول دون ذلك، نتيجة لقصر المدة المتبقية على تسليم المجلس الأعلى للقوات المسلحة للسلطة إلى رئيس الجمهورية المنتخب وذلك في 30 يونيو. ولذلك -عكس ما تطالب به بعض القوى السياسية- ينبغي في جميع الأحوال إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها. ويمكن في مجال تحديد صلاحيات الرئيس المنتخب إصدار إعلان دستوري يحدد بصورة مؤقتة هذه الصلاحيات، إلى أن يتم انتخاب الرئيس الجديد، وبعد ذلك يتولى مجلس الشعب من خلال مناقشات دستورية موسعة في لجنة تأسيسية ممثلة حقاً لمختلف طوائف الشعب المصري وضع دستور كامل، يعبر حقيقة عن رغبات وآمال كل طوائف الشعب المصري. إن "الصورة الفوضوية التي شهدناها في مليونية ميدان التحرير ينبغي أن تختفي حتى نطبق بدقة خطة الطريق الموضوعة". أما أن تتصاعد المطالب المتناقضة من القوى السياسية المختلفة "إخوانية" وسلفية وليبرالية ويسارية وثورية، فمعنى ذلك تعويق المسيرة الديمقراطية للبلاد. وحتى لو تم تطبيق هذه الاقتراحات فلا يظن أحد أن انتخاب رئيس الجمهورية مهما كان شخصه وتوجهه سيحل الأزمة السياسية في مصر، لأنه سبق أن ظهرت هتافات في ميدان التحرير تقول "يسقط الرئيس القادم"، ومعنى ذلك عدم اعتراف بالشرعية الدستورية بزعم أن الشرعية الثورية هي الأساس. إن هذا التناقض بين الشرعية الثورية والشرعية الديمقراطية إن لم يتم القضاء عليه فمعنى ذلك أن مصر مرشحة لأن تكون مسرحاً لعدم الاستقرار السياسي لسنوات قادمة، مما من شأنه أن يؤثر على أوضاع الوطن الاقتصادية والاجتماعية. لقد آن أوان الخضوع للشرعية الدستورية، وعلى من يخسرون الانتخابات أن يلتزموا بقيم الديمقراطية، التي تنص على احترام مبدأ تداول السلطة، والإيمان بأهمية التوافق السياسي بين كافة الأطراف السياسية، والالتزام بالحلول الوسط. وهكذا تمارس الديمقراطية في كل البلاد التي رسخت فيها قواعدها، وأصبحت سبباً في تقدمها الاقتصادي وتطورها الاجتماعي.