في الوقت الذي يُعنى فيه علم الأمراض النفسية الطبي، بتشخيص وعلاج تلك الأمراض، وما يصاحبها من اضطرابات واختلالات، انبثق مؤخراً عن هذا العلم الطبي التقليدي مجال حديث يعرف بعلم النفس الإيجابي (Positive Psychology)، الذي يمكن أن نطلق عليه أيضاً -مجازاً- التفكير الإيجابي، وإن كان هذا المجال يشمل في الحقيقة جوانب متعددة، تتخطى حدود ونطاق التفكير بشكل إيجابي. بمعنى، أن علم الأمراض النفسية التقليدي، يتعامل مع الأشخاص الذين اختل لديهم التوازن النفسي الطبيعي إلى درجة مرَضية، بينما يهتم علم النفس الإيجابي بدراسة كيفية تدعيم المتعة والراحة النفسية، وتحليل القيم، والأخلاق، والمواهب، والقدرات، وتعزيز هذه الصفات من خلال السبل والنشاطات المختلفة.ويمكن فهم فلسفة هذا المجال النفسي الحديث، إذا ما شبهنا علم النفس التقليدي بعلم أمراض القلب التقليدي، الذي يُعنى بتشخيص وعلاج الاضطرابات والاختلالات التي تصيب القلب وشرايينه، بينما يتشابه علم النفس الإيجابي مثلاً مع ممارسة النشاطات الرياضية، التي تهدف إلى رفع اللياقة البدنية، بما في ذلك كفاءة ولياقة القلب، دون أن تكون هناك خلفية مرَضية. وتأتي أهمية علم النفس الإيجابي في ظل تزايد الإدراك بأن الحالة النفسية الإيجابية، وبخلاف أنها تجعل الحياة أكثر متعة وإرضاء للذات، توفر قدراً لا يستهان به من الوقاية ضد الأمراض الجسدية. فلسنوات طويلة أدرك الأطباء أن التوتر والاكتئاب يعتبران من عوامل الخطر خلف الإصابة بالعديد من الأمراض، مثل أمراض القلب والشرايين، وانخفاض كفاءة وفعالية جهاز المناعة، وحتى تراجع الخصوبة وفرص حدوث الحمل. ويتفاقم تأثير الحالة النفسية السلبية إذا ما كان الشخص مصاباً أساساً بأحد أمراض القلب، وخصوصاً أمراض الشرايين التاجية المغذية لعضلة القلب، إلى درجة أن معدلات الوفيات بين هؤلاء المرضى، تبلغ أربعة أضعاف معدلاتها بين المرضى الذين يتمتعون بحالة نفسية إيجابية. وما اكتشفه العلماء والأطباء مؤخراً أن الحالة النفسية الإيجابية، وبخلاف أنها تخفض من نسبة الوفيات بين المصابين بأمراض القلب، تحقق وقاية ضد الإصابة بهذه الأمراض من الأساس. ففي دراسة مثيرة نشرت في العدد الأخير بإحدى الدوريات الطبية المتخصصة في علم النفس الطبي (Psychological Bulletin)، ومن خلال مراجعة 200 دراسة تبحث في العلاقة بين الحالة الصحية للقلب وبين الحالة النفسية، اكتشف علماء كلية الصحة العامة بجامعة هارفارد الشهيرة، أن الأشخاص الذين تتميز حياتهم بالتفاؤل، وبالبهجة والسرور والانشراح، تنخفض لديهم احتمالات الإصابة بأمراض القلب وأمراض الشرايين، مثل الذبحة الصدرية، والسكتة الدماغية. ويعتقد العلماء أن هذه العلاقة هي نتيجة كون الأشخاص الذين يتمتعون بحالة نفسية إيجابية، ويرتفع لديهم مستوى الرضا عن حياتهم، وينخفض لديهم مستوى التوتر والاكتئاب، فتنعكس حالتهم النفسية تلك على نمط حياتهم اليومي، بشكل يجعلهم يمارسون عادات أفضل صحيّاً، في نوعية وكمية غذائهم، وفي مقدار النشاطات البدنية بوجه عام، والرياضية بوجه خاص، كما أنهم يكونون أكثر ابتعاداً عن السلوكيات الصحية الضارة، مثل التدخين، أو شرب الكحوليات، أو تعاطي المخدرات. وتتضح قوة العلاقة بين الحالة النفسية، ونمط الحياة، واحتمالات الإصابة بالأمراض، من حقيقة أن الأمراض المزمنة الأكثر انتشاراً حاليّاً، مثل داء السكري، وزيادة الوزن والسمنة المفرطة، وأمراض القلب والشرايين، والأمراض السرطانية، وارتفاع ضغط الدم، وبعض أمراض المناعة الذاتية، ترتبط عوامل الخطر خلفها ارتباطاً وثيقاً بنمط الحياة. وعلى سبيل المثال، توصلت دراسة حديثة إلى أن قرابة نصف حالات السرطان في بريطانيا -أكثر من 13 ألفاً سنويّاً- سببها سلوكيات شخصية غير صحية، مثل التدخين، وشرب الكحوليات، وتناول غذاء غير صحي. وحسب هذه الدراسة التي أجرتها إحدى الهيئات الخيرية المعنية بالأمراض السرطانية، يعتبر التدخين -وبقية استخدامات التبغ- هو المتهم الرئيسي، بتسببه في 23 في المئة من حالات الإصابة بين الرجال، و15 في المئة من حالات الإصابة بين النساء، يليه في ذلك نقص الفواكه والخضراوات من طعام الرجال، وزيادة الوزن والسمنة بين النساء. وبخلاف تأثير الحالة النفسية على الممارسات الشخصية، يعتقد العلماء أنها تؤثر أيضاً على العمليات الحيوية، وعلى التوازن الكيميائي داخل الجسم، وخصوصاً فيما يتعلق بمستوى ضغط الدم، ونسبة الكولستيرول، وبعض اختلالات الهرمونات المصاحبة للتوتر والاكتئاب، وهو ربما ما يفسر أنه حتى في ظل تشابه نمط الحياة والعادات الصحية، كان الأشخاص المتفائلون، والمبتهجون بحياتهم، أقل عرضة للإصابة بالذبحة الصدرية والسكتة الدماغية بنسبة 50 في المئة، مقارنة بأقرانهم المتماثلين في نمط الحياة، ولكن تتميز حياتهم بالتشاؤم والتوتر والقرف والاكتئاب. وأمام هذا الوضع يسعى علم النفس الإيجابي إلى تغيير الحالة النفسية للأشخاص الأصحاء غير المرضى، الذين تتميز حالتهم النفسية بالسلبية، أو حتى من لا تتميز نفسياتهم بقدر كافٍ من الإيجابية، من خلال مساعدتهم على التعرف على وتمييز ما يمنحهم اللذة والمتعة الشخصية، وما يثلج صدورهم، ويمنحهم قدراً أكبر من التفاؤل، ويبعد عنهم أشباح التشاؤم والاكتئاب، ليس فقط لزيادة رضاهم واستمتاعهم بحياتهم، وإنما أيضاً لوقاية قلوبهم من الذبحة، وأدمغتهم من السكتة. د. أكمل عبد الحكيم