كنت آمل انحسار الضجّة التي أُثيرت، لكن هذا الجدل الدائر حول دور جهاز القراءة الإلكتروني في تنحية الكتب التقليدية لا يزال محتدماً، لاسيما حول ما إذا كانت عقود نشر الكتب المخصصة للوحات "كيندل" و"أيباد" وغيرها من أجهزة قراءة الكتب الإلكترونية، تمهِّد لزوال الكتب والمكتبات بصورة نهائية. لقد خصَّصت الجرائد صفحات بأكملها من أقسام تغطية أخبار الفنون لهذه المسألة: أتذكَّر مثلاً كيف كرست إحدى الصحف اليومية مساحة كبيرة لصورة بائعي الكتب المستعملة، على ضفاف نهر السين في باريس، قائلةً إن بائعي الكتب القديمة سيكون مصيرهم الزوال. طبعاً، لقد فاتَ الكاتب أنه في حال توقفت فعلاً دور النشر عن طباعة الكتب، سيبرز سوق مزدهر للإصدارات الكلاسيكية يعيد إحياء أكشاك الكتب الشبيهة بتلك التي نجدها في باريس، وهي الأماكن الوحيدة التي سيتمكن المرء فيها من إيجاد كتب الأيام الغابرة. وقد انطلق هذا الجدل قبل أكثر من 30 سنة مع الانتشار الواسع لبدء استخدام الكمبيوتر الشخصي. لكن وصول القارئ الإلكتروني أثار مخاوف جديدة. وفي آخر الأمر، سئِمتُ أنا وكاتب نصوص السيناريو جان-كلود كاريير من محاولة الإجابة كلٌّ بمفرده على كافة الملاحظات حول مصير الكتاب المحتَّم، ونشرنا نقاشاً مطوَّلاًً السنة الماضية بالعنوان الاستفزازي: "إنها ليست نهاية الكتاب". لكن دعم فكرة المستقبل المديد للكتاب لا يعني النفي بأن بعض المؤلفات المرجعية يسهل حملها على جهاز لوحي، أو أن الأشخاص الذين يعانون من ضعف النظر عن قُرب يجدون سهولة أكبر في قراءة صحيفة على جهاز إلكتروني يتيح لهم زيادة حجم الخط، أو أنه باستطاعة أولادنا تفادي إلحاق الأذى بعمودهم الفقري من خلال عدم حمل حقائب مدرسية ثقيلة للغاية. كما لا أؤكد أن قراءة النسخة الورقية من رواية "الحرب والسلام" ستكون أكثر متعةً من قراءة النسخة الإلكترونية. غير أننا أصبحنا نملك البرهان على أن استمرارية الكتب ستكون طويلة، وذلك من خلال مؤلفات طُبعت قبل أكثر من 500 عام ولا تزال في حالة ممتازة، بالإضافة إلى مخطوطات صمدت طوال ألفيْ عام. وبالمقابل، لا نملك أي دليل حول صمود وسيلة إلكترونية بالطريقة ذاتها. خلال فترة 30 سنة، تم استبدال القرص المرن بآخر أصغر حجماً في غلاف صلب، قبل استبدال هذا الأخير بدوره بالقرص المضغوط الذي استُبدل بذاكرة "يو أس بي". وتجدر الإشارة إلى أنه لا يجري تصنيع أي كمبيوتر اليوم لقراءة القرص المرن الذي يعود إلى حقبة الثمانينيات، وبالتالي لا نعلم إن كان ما كُتب على أحد هذه الأقراص سيدوم 25 سنة، أو حتى 500 سنة. وكم من الأفضل بالتالي تدوين ذكرياتنا على الأوراق. وعلاوة على ذلك، ثمة فارق هائل بين تجربة حمل كتاب وتصفح أوراقه من جهة، وحمل مفتاح "يو أس بي" من جهة أخرى، أو حتى بين الإطلاع من جديد على كتاب قرأته قبل عدة سنوات، لتكتشف الفقرات التي سطَّرتها والملاحظات التي دوَّنتها في الهامش، وهي تجربة مؤثرة تتيح لك استرجاع المشاعر والأحاسيس القديمة من ناحية، وقراءة الكتاب ذاته على شاشة الكمبيوتر بخط "تايمز نيو رومان" حجمه 12 درجة من ناحية أخرى. ولو اعترفنا بأن أولئك الذين يستمتعون بتلك الأمور هم أقلية من بين سكان الأرض السبعة مليارات الآن، سنجد عدداً كافياً من المتحمسين لتعزيز سوق كتب مزدهر. وإن كانت بعض الكتب القابلة للتلف تختفي من المكتبات ليقتصر وجودها في أجهزة القراءة الإلكترونية، فإن ذلك أفضل بكثير إن أخذنا في الحسبان كمية الأوراق التي لا تُهدر. قبل عدة سنوات، كنت أشتكي من أنه في المكتبات القديمة والمظلمة، كان أي شخص يدخل لتصفُّح بعض الكتب يعترضه رجل حاد الطبع يسأله عمّا يبحث. أما الزبون السيئ الحظ الذي يشعر برهبة هذا الموقف فقد يسارع إلى الخروج. وقد وجدتُ أن معنويات الزائر تكون أقوى عند زيارته المكتبات الضخمة الجديدة حيث يستطيع المكوث طوال ساعات لاكتشاف الكتب كافة وتصفُّحها. أما الآن، فإن تمكَّنت أجهزة القراءة الإلكترونية من استيعاب سوق الكتب القابلة للتلف بأكمله، فإن مكتبات الكتب القديمة قد تنفع مرة جديدة لشيء ما: قد تتحوَّل إلى أماكن يقصدها المولعون بالكتب بحثاً عن أنواع المؤلفات والمنشورات التي لا تُرمى. وأخيراً، علينا أن نتذكَّر أنه في كل مراحل التاريخ، عرف الإنسان أمثلة لا تُحصى عن ابتكارات عديدة هدَّدت باستبدال ما سبقها من اختراعات، من دون أن تتمكَّن من ذلك. فالمطرقة الساقطة لم تحلّ محلّ المطرقة العادية، والتصوير الفوتوغرافي لم يحكم بإعدام الرسم على اللوحات. كما أن السينما لم تضع حداً للتصوير الفوتوغرافي، والتلفزيون لم يقضِ على السينما، والقطارات تتعايش تماماً مع السيارات والطائرات. إذن، سنشهد على الأرجح ثنائية: القراءة على الورق والقراءة على الشاشات الإلكترونية في آنٍ معاً، الأمر الذي سيؤدي في حال انتشاره بشكل كافٍ إلى زيادة هائلة في عدد الأشخاص الذين يتعلمون القراءة إجمالاً. ولا شك في أن ذلك يُعدّ تطوراً بحدّ ذاته. أومبرتو إيكو ينشر بترتيب مع خدمة "نيويورك تايمز"