... وعندما حانت اللحظة كشفت إيران وجهها الحقيقي. وأي دولة يصعب الوثوق بها في خلاف مع أخرى جارتها ويفترض أن تتعايش معها في الجغرافيا نفسها، لا يمكن الوثوق بها في أي أمر آخر. وفي حال إيران، يتضح الآن لماذا لا يصدق العالم مزاعمها عن سلمية برنامجها النووي. وبالطبع لا يمكن التسليم بادعائها النفوذ الإقليمي طالما أنها باتت تهديداً للمنطقة وأهلها. كانت دولة الإمارات تتوقع مبادرة إيرانية موعودة لحل قضية الجزر بالتفاوض المباشر، فإذا بها تتلقى زيارة محمود أحمدي نجاد لجزيرة أبوموسى. وكل الكلام الإيراني الذي قيل بعدها أكد الرسالة التي أرادها من تلك الزيارة: مسح وإلغاء كل ما سمعه المسؤولون الإماراتيون خلال لقاءاتهم مع نظرائهم الإيرانيين طوال ما يقرب من عقدين، والاندفاع مباشرة إلى نفي وجود خلاف أو نزاع بشأن الجزر، بل تأكيد تابعيتها لإيران. فجأة دارت الأوركسترا المعتادة لتدخل ملف الجزر في إطار الهوس القومي، بمزاعم عن "وثائق تاريخية"، وحتى بتهديدات باستخدام القوة العسكرية. لو كانت "الوثائق" لمصلحة إيران لما امتنعت عن الذهاب إلى التحكيم الدولي، ولما عرضت الإمارات أصلاً مثل هذا الاحتكام. ولو استشعرت طهران أن الحل الثنائي بالتفاوض يمكن أن يحقق لها ما قررته مسبقاً لما تأخرت كل هذا الوقت لمباشرته، ولما سوَّفت في الموافقة عليه، ولما تهربت منه أساساً. إنها تريد، ببساطة، أن تبلع تلك الجزر، لعلمها أن القانون الدولي لن يقرّ "إيرانية" هذه الجزر، وأن أي تفاوض لابد أن تكون له مرجعية قانونية إلا إذا ارتأى الطرفان تسوية ترتكز إلى حسن الجوار وإرادة التعاون فتصبح هي عندئذ القانون الذي يفصل في أي خلاف بينهما. من الواضح أن الموقف الإيراني الجديد- القديم نسف أسس "الحل الدبلوماسي"، رغم أن الإمارات ودول مجلس التعاون الخليجي كافة شددت عليه وأبقت التصعيد في إطار ما كان متفاهماً عليه، فإذا أرادت طهران أن تخل بتعهداتها وتلجأ إلى الفجاجة والتكشير عن الأنياب، فإنها بذلك لن تحلّ النزاع بل ترسخه، خصوصاً أنها تحتل الجزر احتلالاً، فما الذي تستطيعه أكثر من ذلك؟ أنْ تنظم رحلات سياحية إليها، مثلاً؟ أو تجري استعراضاً مصطنعاً للقوة؟ في أي حال، ولى العهدُ الذي كانت فيه إيران "شرطي الخليج". الأرجح أن خطوة نجاد رمت إلى إطلاق فقاعة في سماء الخليج في توقيت مدروس: عشية المفاوضات مع الدول 5+1 بشأن برنامجها النووي. فهي تنوي هذه المرة أن تتوصل إلى اتفاق ما مع هذه الدول، لأن الظروف تلح عليها. فللمرة الأولى تجد أن العقوبات ضيقت الخناق عليها في تسويق جزء من نفطها وفي تعاملاتها المصرفية، ثم إن الحليف السوري غرق في مأزق وجودي لا يمكنه الخروج منه إلا بعد تقديم تنازلات جوهرية أو يدفع بسوريا إلى أتون حرب أهلية. هذا من جهة، لكن في المقابل ثمة دوافع أخرى للتطلع إلى مثل هذا الاتفاق، من أبرزها أن إيران باتت الآن متعجلة للحصول على نتائج وثمار استثمارها في ما تعتبره نفوذها الإقليمي، وبالتالي تريد اعترافاً وتعاملاً دوليين مع هذا النفوذ على قاعدة رزمة تشمل أدوار إيران في العراق وأفغانستان وسوريا ولبنان فضلاً عن منطقة الخليج. ولعلها وضعت في هذه الرزمة إغراء مجموعة الـ5+1 بـ"إيجابيتها" في الملف النووي مقابل تجاهل قضية الجزر الإماراتية ونسيانها. هنا يطرح السؤال: هل باتت إيران مستعدة لاستجابة مطالب الدول الغربية بوقف تخصيب اليورانيوم، وقبول مبادلة مخزونها منه بوقود نووي كاف للاستخدام السلمي فقط، وكذلك بفتح منشآتها كافة للمفتشين الدوليين وجعلها تحت رقابة دائمة من جانب وكالة الطاقة الذرية؟ وفي هذه الحال، ما الذي دفعها إلى تعريض البلد وأهله للعقوبات القاسية والاقتصاد للتدهور والعملة للانهيار، لو لم يكن الهدف تزويد إيران بالسلاح النووي؟ لا يمكن الاعتقاد بأن إيران أرادت فقط البرهنة على أنها أصبحت قوة إقليمية تستطيع أن تقود المنطقة إلى شفير حالة الحرب كما تستطيع تنفيس الاحتقان والعودة بالمنطقة إلى احتمالات الاستقرار ولو المفخخ. سرعان ما سيكتشف المجتمع الدولي أن "الإيجابية" و"المرونة" الإيرانيتين ليستا سوى مناورة جديدة، خدعة أخرى، قد تعمد إلى إطالتها وعينها على التقدم الذي يحرزه برنامجها النووي، فهي لن تتراجع عنه وإنما ستحاول ابتزاز العالم به، ولا شك أن ملف الجزر الإماراتية من عناصر هذا الابتزاز الذي لن يغير شيئاً في طبيعة القضية. فحتى من يهددون باستخدام القوة مثل قائد القوات البرية، لا ينسون الإشارة إلى "الدبلوماسية"، فعن أي دبلوماسية يتحدثون؟ إيران أثارت قضية الجزر رداً على مساهمة دول الخليج في العقوبات الدولية.