تتسارع الأنباء الواردة من منطقة شرق أفريقيا، حول أجواء صراعات وتنافسات لا تبدو مترابطة، لكنها لا تخطئ الالتقاء عند دلالتها في تشكيل مدرك سياسي جديد تتبلور ملامحة في منطقة لم تعرف الصعود السياسي البارز منذ نيريري وكنياتا. لكن ثمة أحداثاً قريبة تبعث برسائل هذا الصعود، الذي لا يعني الإيجابية دائماً لأنه يمكن أن يعنى التدمير الذاتي أيضاً. ما معنى هذه الجرأة لدولة "جنوب السودان" الناشئة، لتهاجم موقعاً استراتيجياً بالنسبة للدولة المجاورة- السودان- في "هيجليج" مصدر الثروة البترولية الحيوي للشمال السوداني؟ وما معنى مهاجمة كينيا العسكرية لجنوب الصومال مؤخراً عابرة مناطق صعبة مثل "توركانا" في شمالها الشرقي الممتد.. لتصل لمراكز التمرد الصومالية- "الشبابية"- جنوب البلد المنهار أصلاً؟ بل ما معنى أن تتقدم إثيوبيا إلى محافل دولية وإقليمية بطلب محاصرة إريتريا إلى حد إمكان التدخل العسكري لمصادرة ما تردده عن دورها في دعم وتدريب كوادر "حركة الشباب"الصومالية؟ في زيارتي الأحدث لـ"نيروبي" أوائل أبريل الحالي كنت أتنقل من حوارات نيروبي حول "انتفاضات" الشمال الأفريقي إلى حوارات أخرى حول تطورات شرقي أفريقيا، وهي تطورات تشغلني منذ الستينيات، منذ كان الرئيس "نيريري" يعلي من احتمالات صعود بلاده لكن تنزانيا لم تكن قوية بقدر كاف لتقود قوة إقليمية فعلية تحت هذا الشعار. وفي الوقت نفسه كانت كينيا دائماً مركزاً، لتطور آخر، رأسمالي استيطاني أقرب إلى "نموذج" جنوب أفريقيا، لا يطمح في تشكيل قوة إقليمية سياسية أو الدخول في الصراعات الوحدوية" الجارية وقتئذ. لكن ها هي الأيام تدور، وإذ بصحف وقيادات كينيا تتحدث عن "النموذج الديمقراطي"، وعن الرخاء المتوقع، وعن جذبها لدولة حديثة غنية مثل "جنوب السودان"، وعن جاذبيتها هي نفسها مرة أخرى للنفوذ الأميركي في المحيط الهندي رغبة في استقرار القيادة الأميركية العسكرية المعروفة باسم "أفريكوم" نيروبي. لم يكن الأمر محتاجاً لقراءة ما بين السطور، فصحافة كينيا من أكثر مصادر المعرفة في القارة منافسة لجنوب أفريقيا، وتتقدم من منافس سابق في نيجيريا. ويسهل ذلك عادة الحوار والتعليق مع بعض "العارفين بالأحوال"! يكفي هنا أن أقول إن أمين عام جمعية العلوم السياسية الأفريقية السابق، صديقنا "بيتر أنيانج نيونجو"، هو الآن وزير الصحة، بعد أن كان وزيراً للتخطيط! وقد اكتسب ذلك عندي دلالة مهمة في معنى الوجود السياسي الديمقراطي في تشكيل جهاز الحكم، لأن سيادته من قادة حركة أو ثورة "الأورانج" منذ مطلع القرن، ومن يعرف ما نناضل من أجله أو ضده في القاهرة وفي العالم المعروف كله الآن، بل وقبل ذلك بعقود. يعرف معنى ما أشير إليه. بل وقد استثارني أكثر من ذلك ما قرأته من بيان سياسي عند وصوله نيروبي صادر من "قصر الرئاسة الكيني"- وليس تصريح "للرئيس..." آخر مارس الماضي، تعليقاً على الموقف من المتنافسين حول "بترول كينيا" في منطقة "توركانا" شمال شرق كينيا يقول فيه:"إن السياسة الدبلوماسية للرئيس تقودها نظرة كينيا القائمة على فهم التغيير في الديناميات الجيوسياسية، وقد تطلب ذلك فهم مدى التقاء الشرق والغرب، في مجال الشؤون الدولية، في بيئة متغيره دائماً"... هذا تصريح من "مصدر" في رئاسة الدولة الكينية، يكشف مع إشارات أخرى عن دور النخبة المحيطة بقيادتها، وفي الحياة العامة والسياسية بهذا البلد الصاعد في أحضان العولمة! ولذا أشير إلى الأسى لافتقاد ذلك في بلد "الربيع" "والشتاء" العربيين! والتصريح المذكور لا يصدر عن مجرد التعبير عن الثقافة السياسية المتوافرة حالياً لدى النخبة في هذه المنطقة، ولكنه صادر عن واقع تتصارع فيه عروض الصين والبرازيل وهولندا والنرويج وكندا للحصول على امتيازات التنقيب عن البترول في "توركانا"... حيث سبقت بريطانيا المستعمر السابق، بالسعي المبكر إلى هناك، ربما قدمه عالم له خبرة طويلة بمنطقة يعمل فيها منذ الستينيات، وهو الأستاذ "ل. ليكي!... كما تقوم شركة "تالو" الإيرلندية بمتابعة هذه البحوث في غانا وكينيا على السواء. والحديث عن بترول كينيا حديث فني طويل، لكن الكتابات المختلفة تجمع على "مكانته العالمية" عموماً، وأسراره كما قلنا هي من مخزون العالم السري للدول المذكورة، لكننا لابد أن نربطها بما يتردد منذ مدة عن بترول الصومال بل وأوغندا، ناهيك عن الذهب في إريتريا! لم تتوانَ دول شرقي أفريقيا في بحث استفادتها السريعة من هذا الواقع الجديد، بل وطرح صراعاتها أيضاً حيث لا يجب أن نتفاءل كثيراً بشأن "ضعف النفوس" أو "النفوذ" في العالم الثالث. ويهمني هنا ما تبعثه تطورات هذه المنطقة للعالم العربي، سواء كانت الرسائل إيجابية أو سلبية. فها هو تطور محاولات "التكامل" بين "كينيا- أوغندا- تنزانيا باسم جماعة أو إقليم الشرق الأفريقي لتضم رواندا وبوروندي، بل وتدعو لتنسيق العلاقة بين دول حوض النيل (المبادرة المهدورة) وبين دول البحيرات العظمى. وقد سارعت الجماعة الجديدة بالترتيب للاتحاد النقدي وتوحيد العملة بما كان مقرراً أن يتأكد آخر عام 2012، ولكن عجرفة "رواندا"..، أصغر الوحدات في الإقليم وأقواها الآن اقتصادياً وعسكرياً- تحول دون ذلك مؤقتاً! وتسارع كينيا في دفع سياسات التنمية الاقتصادية الليبرالية- وهي مركز عالمي قديم لذلك. ليبلغ معدل النمو حوالي 7 في المئة مؤخراً... بهذا النمو الذي تخدمه توسعات الصين وبريطانيا والولايات المتحدة معاً تتقدم كينيا مع مجموعة شرق أفريقيا الإقليمية بأكبر مشروعات البنية التحتية لتحقيق المصالح المتبادلة أو المشتركة، وفق ما يسمى بمشروع "لابست" Lapsset الذي لا أريد أن أثقل على القارئ حوله بأكثر من أنه يتضمن إعداد طريق إلى "لامو" على الساحل الكيني قادماً من جنوب السودان عبر إثيوبيا بطول 880 كيلو متراً، وخط سكة حديد من جنوب السودان أيضاً قادماً إلى "لامو" بطول 1710 كم وخط أنابيب بترول من جنوب السودان "لامو" ومصفاتها بطول 2240 كم من هنا تبدو كينيا مستعدة لأن تصبح قوة إقليمية، ومركزاً لإقليم كبير في شرقي القارة، تنافس فيه انفراد إثيوبيا وأوغندا بالنفوذ، وتواصل إخضاع سوق تنزانيا، وتزحف بسهولة إلى الصومال، ويمكن أن تستخدم قوة رواندا وامتداد بوروندي إلى الجنوب. ويعتبر لجوء "جوبا" لكينيا بوفد كبير قبل العدوان على "هيجليج" إشارة ذات مغزى في هذا التطور، كما يعتبر تحرك إثيوبيا ضد إريتريا في نفس الاتجاه، ولا أريد أن أواصل التشاؤم لأسأل عما إذا كان اعتذار وزيرة الري الكينية عن زيارة القاهرة لخمس أو ست مرات حديثاً مما يدخل في الإطار؟ والتصريحات من حول كينيا، بل والاقترابات المتنوعة منها تبدو ملفتة بدورها. فالقيادة الأميركية العسكرية لأفريقيا تصرح أن شرق أفريقيا أصبحت من "أولوياتها الأولى" في القارة (ومن قبل صرحت أن الصحراء الكبرى كذلك!)، وها هي الصين تصرح أنها لن تسمح أن يصير "المحيط الهندي" هندياً! في المقابل تتوسط إسرائيل وقطر بين إثيوبيا وأريتريا، لتهدئة التوتر من أجل مشروعات أفضل تعطلها الصراعات، ولقطر مشروعات زراعية شرق السودان- كما قالت صحف كينية- تريد تأمينها من صراع إثيوبي- إريتري قريب منها. كما لها علاقات وثيقة في كينيا والمنطقة تجعلها تخطط لمحطة مقيمة لقناة "الجزيرة" في نيروبي باللغة السواحيلية. أما إسرائيل فأمورها مستقرة من قديم في المنطقة. الطريف أن تطرح كينيا نفسها أيضاً "كنموذج ديمقراطي" في المنطقة، وهي كذلك بقدر استعادتنا لموقف شعبها من استفتاء على الدستور رده بالرفض إلى نحو الرئيس عام 2008 حين أراد مضاعفة سلطاته! وسألت دماء حتى وضع دستور جديد يقسم السلطة بين أطراف هي متنازعة أصلاً... واللحظات الهنيئة الآن في كينيا لعرض "النموذج الديمقراطي"، تهددها معركة انتخابات الرئاسة أوائل عام 2013، فإما أن يرتاح الصراع العالمي لاستقرارها لصالحه، أو يشعل النيران القبلية لصالحه أيضاً!