رأينا في المقالة السابقة كيف أن بعض الدول العربية عمدت إلى التدخل في أسعار السلع وتدعيمها حفاظاً على السلم الاجتماعي في مقابل التخلف والركود الاقتصادي الذي تعاني منه تلك الأوطان. وسنتوقف هذا الأسبوع عند نظام في المغرب يعرف بالمقاصة وهو مرتبط بصندوق المقاصة، وكل الحكومات المتعاقبة حاولت إصلاحه ولكن سرعان ما تبوء كل سياساتها بالفشل الذريع، وهو ما يجسد في الزيادة المستمرة في دعم الدولة للأسعار. لقد أنهى المغرب سنة 2011 بعجز قدره 1,6 في المئة من الناتج الداخلي الخام، وهو رقم قياسي لم يعرفه المغرب منذ زمن بعيد، ويعزى هذا العجز إلى تكلفة صندوق المقاصة وإلى الحوار الاجتماعي، وأيضاً إلى الارتفاع المهول لأسعار المواد الأساسية في العالم، غير أن التحليلات تشير إلى أن المغرب استطاع مع ذلك أن يحقق نموّاً بنسبة 5 في المئة بفضل انتعاش الناتج الداخلي الخام. وحسب المندوبية السامية للتخطيط، وصلت نسبة البطالة إلى 7,8 في المئة في الربع الثاني من سنة 2011، ولمواجهة هذا الوضع، انخرط المغرب في الحوار الاجتماعي مع النقابات المركزية في البلد، وكان ينبغي لهذه المحادثات أن توصل كتلة الأجور إلى أكثر من 95 مليار درهم هذه السنة. إن صندوق المقاصة الذي تصل ميزانيته إلى 8,48 مليار درهم يؤثر بثقله على توازن ميزانية المغرب الذي يسعى للاستجابة إلى المطالب الاجتماعية لشريحة عريضة من الساكنة، وذلك من أجل تقليص الهوة الكبيرة بين الفئات الاجتماعية، ومع ذلك، لا يزال إصلاح نظام المقاصة الذي انخرط فيه المغرب منذ سنة 2008 ورشة شاسعة، إضافة إلى أن مناخ الاحتجاجات والمطالبة بتغييرات هيكلية في العالم العربي، وتداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية، والركود الاقتصادي والاستثماري في أوروبا الذي له مع المغرب علاقات متجذرة، كل هذا أوقف عملية إصلاح صندوق المقاصة. وهذا الإصلاح كما تشير إلى ذلك الأستاذة المتخصصة أسماء علوي تائب مسألة دقيقة وحساسة بالنسبة لكل الحكومات المغربية المتعاقبة، فقد وصلت فاتورة الفرق بالنسبة للأسعار الطاقية أكثر من أحد عشر مليار درهم، ويعتبر صندوق المقاصة بالنسبة للقوة الشرائية وسيلة ضرورية لدعم الأسعار من أجل الحفاظ على الأجور المنخفضة، ومن أجل التخفيف أيضاً من آثار ارتفاع أسعار المنتوجات الغذائية في السوق العالمي، غير أنه من الملاحظ أن هذا الدعم المخصص للفقراء، أصبح يدعم الطبقات الميسورة على حساب الشرائح الاجتماعية الأكثر هشاشة، ولهذا ينبغي الانتقال من دعم عام إلى مقاربة أكثر تحديداً لهذا الدعم، وبالتالي يجب الانتقال من مجرد دعم المواد إلى تخصيص أموال مباشرة عن طريق مساعدات خاصة لمن هم أكثر فقراً، إلا أنه من السهل قول مثل هذا الكلام، ومن الصعب القيام به خاصة وأن الأشخاص المعنيين يمثلون 5,97 في المئة من المغاربة. إن نظام المقاصة يمتص 20 في المئة من ميزانية الدولة، وهو ما شكل ثقلاً أكبر مما يمثله باقي الوزارات مجتمعة، علماً بأن المنتوجات البترولية هي التي تمثل العبء الأكبر... وهكذا كانت سنة 2008 مقلقة بالنسبة للحكومة المغربية عندما وصل سعر البرميل مستوى قياسيّاً أي 145 دولاراً. وقد تصورنا الأسوأ، أي أنه لو وصل البرميل إلى 200 دولار، فإن صندوق المقاصة سيتجاوز 60 مليار درهم، وهو ما يوازي كتلة الأجور في الميزانية العامة، وهي وضعية لا يمكن للدولة مواجهتها لوحدها. وتشير الخبيرة المغربية والأستاذ نورالدين العوفي من خلال تشخيص متمكن إلى وجود ثلاثة اختلالات أساسية يعاني منها نظام المقاصة الحالي في المغرب وهي: - أنه نظام غير منصف حيث تستفيد منه الفئات الميسورة بدل الفئات الفقيرة من الساكنة المستهدفة عادة في هذا النظام وهي التي تبرر مجهود الدولة. - أنه نظام غير فعال لأنه يعيد إنتاج وضعيات وسلوكات اقتصاد الريع، وأنه موسوم باعوجاج على مستوى هياكل سعر المنتوجات المدعمة وتعدد المتدخلين المستفيدين من الأموال المستردة، وهذا خطأ في تنسيق العمليات. - أنه نظام صار غير محتمل بالنسبة لعبء الصندوق على ميزانية الدولة خاصة عندما نأخذ بعين الاعتبار التطور غير المستقر للأسعار على المستوى العالمي وخاصة أسعار المنتوجات البترولية والفلاحية التي تميل إلى الزيادة المستمرة وتعريض التوازنات الماكرو- اقتصادية للخطر. إن أولى الأولويات التي تنتظر حكومة بنكيران اليوم هي إصلاح صندوق المقاصة وذلك بدعم القوة الشرائية والتحكم في الأسعار من خلال قانون العرض والطلب أو قانون المنافسة، ومن خلال الدخل المتاح للأسر وذلك بالزيادة في الأجور من جهة أخرى، فالمسؤولون المغاربة، بحفاظهم على القوة الشرائية بواسطة الدعم، يظنون أن القوة الشرائية تعتمد فقط على أسعار السلع التي لا يمكن تخفيضها أو على الأقل لا يمكن الحفاظ عليها إلا بواسطة الدعم، غير أن هذا غير صحيح لأن العلوم الاقتصادية تخبرنا بأنه يمكن الحفاظ على القوة الشرائية من خلال العمل على الأسعار أو أكثر من هذا، العمل على دخل الأسر. كما أن إصلاح نظام المقاصة ينبغي أن يتم في إطار مقاربة جديدة تقوم على الاستثمار الاجتماعي انطلاقاً من مقولة الصينيين القدماء "لا تعطني سمكة كل يوم، ولكن علمني كيف أصطاد"، بمعنى أن توفير فرص الشغل وتشجيع الاستثمار والمبادرات الفردية هي خير وقاية من الهشاشة وأكر تثبيتاً للسلم الاجتماعي وليس الصدقة محدودة الأثر والتأثير على الساكنة وذات الثقل المستمر على ميزانية الدولة.