مع دخول الأزمة الاقتصادية عامها الرابع، بات لدينا الآن إحساس أوضح بالدول التي استجابت لتلك الأزمة على النحو الصحيح، وتلك التي ساهمت من خلال استجابتها الخاطئة بإطالة أمدها، أو مفاقمة وضعها. والمناقشة المتعلقة بذلك يجب أن تبدأ من خلال إجراء مقارنة بين المقاربتين المختلفتين للأزمة من قبل الإدارة الأميركية والحكومات الأوروبية. وإذا بدأنا من اليونان حيث ألقيت عدة محاضرات، خلال الآونة الأخيرة، حول الانتخابات الرئاسية الأميركية، والتي كانت تجد عاصمتها أثينا- التي كانت في يوم من الأيام مركزاً لإحدى أكثر إمبراطوريات العالم نفوذاً- نفسها في قلب الأزمة الأوروبية في الوقت الراهن. خلال العقد الماضي، استدان اليونانيون- مستندون في ذلك على قوة اليورو- ديوناً شخصية هائلة. وعندما وصلت الأزمة المالية- المدفوعة بانهيار الأوراق المالية المرتبطة بالرهونات العقارية في مختلف أنحاء العالم- إلى شطآن بحر إيجا، كان الاقتصاد اليوناني قد بدأ في التهاوي بالفعل. وقد ساهمت التقديرات الحكومية الزائفة في اليونان حول حجم الدين القومي للبلاد في تهدئة الأسواق الأوروبية والعالمية مؤقتاً، ولكن عندما تكشف الحجم الحقيقي لمديونية اليونان في خاتمة المطاف، شهد اقتصاد البلاد المزيد من الانهيار. في الوقت الراهن هناك عدد محدود من المقرضين- إذا افترضنا وجوده في الأساس- يمكن أن يوافق على إقراض المشروعات أو المواطنين اليونانيين. وإذا أقدم على تحمل هذه المخاطرة بالفعل، فإنه يتقاضى مقابلها فوائد بمعدلات باهظة لا يمكن تحملها. ومما يفاقم من سوء الأوضاع أن نصف عدد اليونانيين تحت سن 30 عاماً يعانون من البطالة في الوقت الراهن، علاوة على أن اليونان خلال الفترة التي تسبق الانتخابات العامة القادمة قد تصبح أقل استقراراً مما كانت عليه في أي وقت مضى، ربما منذ إنشاء الدولة اليونانية الحديثة في ثلاثينيات القرن التاسع عشر. وقد انتقلت عدوى المشكلات الاقتصادية اليونانية لباقي دول الاتحاد الأوروبي وخصوصاً إسبانيا وإيطاليا اللتين تواجهان أزمة مماثلة في طبيعتها للأزمة اليونانية، وإن كانت أقل حدة. وأثناء وجودي في اليونان، استمعت لمحاضرة للبروفيسور" كارالامبوس بابوسوتيريوس" أستاذ الدراسات الاستراتيجية في قسم الدراسات الدولية والأوروبية في جامعة "بانتيون"، الذي أشار إلى أن حركة "حزب الشاي" في الولايات المتحدة قد استجابت لحزمة التحفيز المالي، التي قدمها أوباما بالدعوة لممارسة التقشف المالي، في حين أن إجراءات التقشف المالي التي تبنتها حكومات الاتحاد الأوروبي كانت سبباً في تأجيج نيران الاحتجاجات ضد تلك الإجراءات، وخصوصاً المتعلق منها بوظائف القطاع العام والاستقطاعات المقترحة من التعويضات المستحقة للعاملين. وقال البروفيسور "بابوسوتيريوس"، وقد علت وجهه ابتسامة خفيفة:"اعتقد أنه قد يكون من الأصوب أن تتبادل أميركا وأوروبا الاحتجاجات". وهناك سؤال قد يطرح نفسه هنا هو:"إذا استجابت الحكومات الأوروبية المأزومة للأزمة المالية العالمية بشكل مختلف عن ذلك الذي استجابت به الولايات المتحدة لها، فهل يمكن لنا حينئذ استنتاج أن الاستجابة الأميركية كانت صائبة؟ مبدئياً، يمكن لنا الإجابة بنعم. لماذا؟ لأن المؤشرات الاقتصادية تشير بشكل واضح أن إدارة أوباما، وهؤلاء الذين نادوا عام 2009 باللجوء إلى حزمة تحفيز "كينزية" قد اختاروا الخيار الواعي والمتعقل. فمعدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في الولايات المتحدة بلغ 3 في المئة خلال الربع الأخير من العام الحالي، في حين كان الوضع في أوروبا مختلفاً حيث ثبت ذلك المعدل عند الصفر لدى العديد من الدول الأوروبية، وشهدت اقتصادات عدد منها انكماشاً. كذلك يلاحظ أن التفاؤل والاستثمارات والتعيينات في الولايات المتحدة تشهد نمواً، في حين يستمر الهلع والبطالة المتفاقمة في الجانب الآخر من الأطلسي. وقد أدت الإجراءات التقشفية والزيادات الضريبية، ومعدلات الأجور في القطاع العام، وتقليص المنافع وغيرها من الإجراءات المؤلمة،التي لجأ إليها عدد من الدول الأوروبية إلى ارتفاع نسبة الدين لا انخفاضها في اقتصادات عدد من تلك الدول، لأن انكماش الناتج القومي الإجمالي السنوي أدى إلى تقليص العوائد الضريبية التي أبطلت مفعول - وربما ما هو أكثر من ذلك- أي مدخرات قصيرة الأمد تم تحقيقها من خلال إجراء استقطاعات من الميزانية. والذي حدث هو أن الدول الأوروبية التي كان يجب أن تعمل على زيادة إجمالي الطلب من خلال مزيج من الإنفاق الحكومي والاستقطاع الضريبي، قد ساهمت في مفاقمة مشكلاتها المالية من خلال اللجوء لخيار الزيادات الضريبية القائمة على الذهنية التقشفية، واستقطاعات القطاع العام. "لأوروبا خبرة تمتد عدة سنوات في برامج التقشف القاسية، وكانت النتيجة هي تماماً ما يمكن لأي طالب يدرس التاريخ أن يتنبأ به، وهي أن تلك البرامج قد أدت إلى دفع الدول التي تعاني بالفعل من الكساد إلى المزيد من ذلك الكساد"...كان هذا ما نشرته"نيويورك تايمز" لـ"بول كروجمان" أستاذ الاقتصاد بجامعة برينستون، والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، حول ما أطلق عليه "انتحار أوروبا الاقتصادي"... يجب على الولايات المتحدة إذن، الأخذ بنصيحة "بابوسوتيريوس"، ووضع ملصقات حركة "حزب الشاي" على جوانب سفينة من السفن المبحرة ببطء إلى أوروبا. فمناداة تلك الحركة بالتقشف كانت خاطئة. ففي أوقات الأزمات الجدية، أثبت أعضاء هذه الحركة أنهم مجموعة من الديماجوجيين المفتقرين للجدية الواجبة الذين يفتقرون تماماً للحس الاقتصادي التاريخي. توماس شيلر أستاذ العلوم السياسية بجامعة ميرلاند- مقاطعة بالتيمور ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي.تي إنترناشيونال"