لا مندوحة من الإقرار أن النتيجة البارزة لـ"الربيع العربي"، هي الانتقال من نمط التدبير الأحادي للحقل السياسي إلى شكل التدبير التعددي الحر وفق آليات المنافسة الحزبية المنظمة. ومن المؤشرات الجلية لهذا التحول نجاح التجارب الانتخابية الأولى التي نظمت في البلدان التي عرفت حركية الانتقال الثوري، بحيث أجمعت القوى السياسية المتنافسة على شفافية ونزاهة الاقتراع، وعلى صدق تعبيره عن موازين الصراع السياسي القائم. وعلى الرغم من هذه النتائج المبهرة، نلاحظ أن اللحظة الانتخابية لم تتمكن من احتواء الأزمات الداخلية المتفاقمة في البلدان المذكورة، ولم تفض إلى تطبيع الوضع السياسي الذي لا يزال في طور المخاض العسير. في تونس، تتواصل الحركة الاحتجاجية في الشارع بحدة وتتزايد مواجهة الجموع الناقمة مع قوات الأمن، وتظهر الحكومة الائتلافية التي لا يشكك أحد في شرعيتها عاجزة عن الاضطلاع بسلطاتها التي خولها لها الناخبون. وفي مصر حالة مشابهة: برلمان معطل وعاجز، وجمعية تأسيسية مكلفة بكتابة الدستور الجديد تواجه مقاطعة ألوان الطيف الفكري والسياسي، وانتخابات رئاسية وشيكة تُولد من المخاوف بدلاً من أن تكون المحطة الحاسمة والنهائية في مشهد الانتقال الديمقراطي. لتفسير هذه الوضعية الاستثنائية، يميل البعض إلى تحميل القوى السياسية والأمنية الداعمة للأنظمة السابقة مسؤولية الاحتقان والأزمات المتواصلة، ويذهب البعض الآخر إلى أن الساحة العربية غير ناضجة في الوقت الراهن لدفع استحقاقات التحول الديمقراطي.لا نميل لأي من الرأيين، وإنْ كنا لا ننكر التأثير الجزئي للعاملين المذكورين. مصدر الأزمة الحالية راجع حسب اعتقادنا إلى محورة عملية الانتقال الديمقراطي حول الآلية الإجرائية الانتخابية دون مراعاة الإشكالات الجوهرية المتعلقة بنمط التدبير الديمقراطي بصفته نقطة التقاء الإرادة الفردية الحرة والقيم والوشائج الضابطة للمجال العمومي. وليست اللحظة الانتخابية سوى المسلك الإجرائي للتعبير عن هذا الاقتران في زمنية سياسية محدودة ومؤقتة، ومن الخلف اختزال الممارسة الديمقراطية فيها. والمعروف أن الآلية الانتخابية في شكلها الحالي لم تظهر في الفكر الديمقراطي إلا في مرحلة متأخرة (النصف الثاني من القرن التاسع عشر)، ولم تنل قبول كبار فلاسفة ومفكري الديمقراطية التعددية الذين مالوا إلى اعتبارها متعارضة مع مفهوم سيادة الشعب، الذي هو مرتكز الشرعية السياسية في العصور الحديثة. ويتعين التذكير هنا أن الفكر الديمقراطي ينقسم إلى تقليدين كبيرين: التقليد الليبرالي الذي يقوم على الجانب السلبي للحرية أي تكريس أولوية الإرادة الفردية في مقابل تسلط المجموعة وتحكم الدولة، والتقليد الجمهوري الذي يترجم الجانب الإيجابي للحرية أي انتماء الفرد لمجال عمومي هو دائرة ممارسة السياسة بمفهومها كمجال تداولي تعددي مفتوح. فبالنسبة لليبراليين، لا بد من الاحتراز من اختزال الحرية في مفهوم المشاركة السياسية الذي يعرض حرية الفرد للتلاشي باحتوائه في"ديكتاتورية الأغلبية"، وتقويضه ضمن تصور متخيل لسيادة الشعب(جون ستيوارت ميل ودي توكتيفل). وبالنسبة لـ"الجمهوريين" الذين ينتسبون في مرجعيتهم التأسيسية لروسو، يؤدي القول بأولوية الحرية الفردية على الإرادة المشتركة إلى تفتيت الجسم السياسي وتعريض البناء السياسي للفتنة والاحتقان. ويمكن النظر للممارسة الديمقراطية بصفتها تأرجحاً مستمراً يقتضي صيغاً توفيقية متواصلة بين المبدأ الليبرالي والمبدأ "الجمهوري"، أي بين الذاتية الفردية غير المقيدة التي هي القاعدة المرجعية للديمقراطية، والمجال العمومي الذي هو القاعدة المجتمعية العينية للبناء الديمقراطي. ولا معنى للحظة الانتخابية إلا إذا كانت تجسيداً لإرادة فردية متحررة من إكراه وضغط شتى السلطات الاجتماعية والرمزية والعقدية، وكانت في الآن نفسه خلاصة حوار عمومي مفتوح قائم على البرهنة والنقاش السلمي. وكما يبين مؤرخ الديمقراطية البارز "بيار روزنفالون"، يكتسي الإجراء الانتخابي أهميته من محدد أوحد، هو كونه يضع حداً مؤقتاً للنقاش العمومي، الذي لا يمكن أن يستمر دون توقف، وإلا أفضى للعنف والتناحر. إلا أن الإجراء الانتخابي (اختزال الكلي في الأغلبية العددية المقترعة)، لا يمكن في ذاته أن يحل كلياً موضوع الشرعية السياسية. فالخطر الذي يتهدد أي ممارسة ديمقراطية هو تحول الفعل السياسي إلى تقنية إجرائية، بدل المفهوم النظري والرمزي للديمقراطية بصفتها المسلك التدبيري لتكريس تحرر الفرد وضمان المساواة داخل المجتمع. فعندما تعجز الميكانيكا الانتخابية عن حسم الصراع السياسي، يكون الإشكال متعلقاً بعدم تناسب قواعد المنافسة مع طبيعة المجال العمومي الذي يقتضي حداً معيناً من الإجماع حول الأطر والضوابط المعيارية والقيمية الناظمة للتعددية القائمة. ولقد أطلق الفيلسوف الأميركي "جون رولز" على هذا التناسب "التباين المعقلن"، الذي يحمي المجال التداولي المفتوح من العنف والهيمنة والفوضى. لا يبدو أن التجارب الديمقراطية العربية الوليدة قد توصلت إلى هذا الإجماع الأدنى حول القيم والقواعد الضابطة للنقاش العمومي، ومن هنا عجز الآلية الانتخابية عن احتواء الأزمات المتولدة عن تركة العهود الاستثنائية المنهارة. ولذا كان من الطبيعي أن ينعكس المأزق في الصراع الإيديولوجي الفكري المحتدم حول المرجعيات الدستورية، خصوصاً ما يتعلق منها بعلاقة الدين والدولة ومنزلة الشريعة في البناء القانوني. ولا شك أن تقديم الانتخابات التشريعية على اللحظة الدستورية، وإنْ كان مبرراً من حيث الاعتبارات الديمقراطية الشكلية، إلا أنه أدى إلى تأجيج الصدام حول مسألة المرجعية التأسيسية للنظام السياسي، في مرحلة أصبح للتشكيلات الإسلامية الحضور التمثيلي الكافي لانفرادها بكتابة النص الذي يقوم عليه البناء السياسي بكامله. الحل المتاح حسب رأينا يقتضي وضع الضمانات القانونية والتنظيمية التي تسمح بتحرير وتوسيع المجال التداولي العمومي، لكي يشمل كل ألوان الطيف السياسي والفكري بغض النظر عن حجمها الانتحابي الذي ليس بالضرورة جامداً.كما يقتضي هذا الحل إخراج البنيات والمرتكزات البيروقراطية والمؤسسية للدولة عن تحكم الحكومات المنتخبة تفادياً لالتباس سلطة القرار التنفيذي بالميدان العمومي المشترك. كان "دي توكتيفل" يحذر من أكثر أمراض الديمقراطيات خطورة والتباساً، وهو الاستبداد المتولد عن الشرعية الانتخابية الذي لا سبيل لمواجهته ديمقراطياً.