زمن الثورة وزمن الثروة، مصطلح أطلقه وردده متحدث في أحد المؤتمرات التي عُقدت مؤخراً للدلالة على حالة العرب الموزعة بين مجتمعات تملك الثورات ومجتمعات تملك الثروات! ومثل ذلك ما قالته أستاذة جامعية عربية في ندوة عقدت بجامعة خليجية حين تحدثت قسّمت المجتمعات العربية إلى مجتمعات تملك العقول ومجتمعات تملك الأموال! في مقابلة ثنائية ذكرتني بما تعلمناه في علم المنطق من نظرية التحسين والتقبيح، إذ تختار مثل هذا المقابل للرفع من شأن أمر مقابل أمر آخر استناداً إلى الموقف أو اللحظة الزمنية. ولذا فإن مثل هذه المقابلات اللفظية إنما تشير إلى حالة من التحسين والتقبيح انتهازاً للحظة التاريخية التي يمر بها العرب. ولسنا بصدد الرد على مثل هذه الأطروحات التي لا تدل على رؤية موضوعية عدا عن مخالفتها للمنهج العلمي في المقارنات، فليست كل مجتمعات الثورة "حسنة" مثلما أن مجتمعات الثروة ليست "قبيحة" كذلك، فالثورات سواء كانت العربية منها أو غيرها ليست هدفاً بذاتها، بل هي وسيلة لتحقيق غاية كبرى، وهي تحقيق أهداف الناس في الحرية والحياة الكريمة. ففي مجتمعات تغيب عنها أبسط متطلبات الإنسان من حقوق عامة، ومتطلبات عيش كريم كبقية البشر، فإنه من المتصور أن تثور هذه الشعوب من أجل مصلحتها، وليس العرب أول الثائرين لأجل ذلك فقد سبقتهم شعوب كثيرة، لكن هل كل الثورات حققت لشعوبها ما تهدف إليه، فإذا كانت الثورة الفرنسية قد نقلت الشعب الفرنسي إلى الحرية والعدالة والمساواة، فإن ثورات أخرى أغرقت شعوبها في العزلة والتخلف وشظف العيش حتى ثارت شعوب"الثورات" على ثوراتها، ولا أدل على ذلك من الثورة البلشفية التي حكمت روسيا أكثر من سبعين سنة، ولم تحقق للإنسان ما كان يصبو إليه، بل عزلته خلف ستار حديدي وسخْرته ليكون "محراثاً" في الأرض الزراعية أو "ترساً" في الآلة الصناعية و"سلخته" من إنسانيته، حتى ثارت الشعوب الخاضعة لهذه الثورة وتحررت من عزلتها وقبل ذلك تحررت من "ثورتها"! وإذا كانت الثورة البلشفية قد أصبحت جزءًا من التاريخ القديم، فإن التاريخ القريب لايزال يعطينا الدروس تلو الأخرى، فهل كان نظام القذافي في ليبيا إلا نموذجاً للثورات حين تصبح "كلاَّ " على شعوبها، حتى آثر الليبيون الموت على حياة تحت ظل " ثورة "القذافي! ، أما كوريا الشمالية فتمثل نموذجاً "متميزاً" للثورات حين تصبح "كارثة" على شعوبها، ففي الوقت الذي تطلق فيه الصواريخ العابرة، وتصنع القنابل النووية، يموت الشعب جوعاً في الشوارع، وتستجدي "الدولة" المعونة من أعدائها لإطعام أبنائها، ويُصَب الناس في قوالب متكررة، وكأنهم نسخة واحدة في فكرهم وسلوكهم ودورهم، بل وفي أحزانهم على زعيمهم الراحل، مثلهم مثل زجاجات المياه الغازية ذات اللون والطعم والحجم والثمن الواحد أيضاً! هذا لا يعني أن كل الثورات هي مثل هذا النموذج، ولكن التعميم بأن الثورة هي الحل، تعميم خاطئ يجانب الحقيقة والواقع، مثل مقابلة الثورة بالثروة، فليست مجتمعات "الثروة "بالصورة التي يصورها بعض الباحثين العرب، ولا يختلفون في ذلك عما تقدمه بعض الأفلام الأميركية! فمجتمعات الثروة، ليست المدينة الفاضلة كما أنها ليست "عوراء"! كذلك ، فقد استطاع كثير منها أن يستثمر الثروة في تنمية مجتمعاته، فارتفعت مستويات التعليم، وحقق كثير من مؤسساتها مستوى جيداً مقارنة بالجوار الإقليمي، كما ارتفع مستوى الوعي الثقافي لدى أبناء هذه المجتمعات، وأصبح لديها العقول التي تفكر وتبدع وتنتج في شتى الميادين الفكرية والثقافية والعلمية، وأصبح أبناؤها من الأكاديميين والكُتاب والأدباء والمتخصصين ينافسون أقرانهم من المجتمعات الأخرى على الرغم من النشأة التعليمية المتأخرة لهذه المجتمعات مقارنة بالمحيط الإقليمي. وعلى مستوى الحياة العامة، تطورت الخدمات لديها لتضاهي مثيلاتها في المجتمعات المتقدمة، بل أصبحت كثير من مدن "الثروة " تنافس المدن المتقدمة في الشرق والغرب، وتحقق لهذه المجتمعات متطلبات الحياة الكريمة التي يحتاجها الإنسان ليعيش الحالة الزمنية التي يمر بها، وامتد تأثير مجتمعات "الثروة" إلى خارج حدودها الجغرافية مساعدةً واستثماراً وتنميةً في المجتمعات الأخرى. ولذلك فإن مقابلة الثورة بالثروة، مقابلة غير منصفة، بل ربما بددت الثورة ما تقدمه الثروة، ولنا في نموذجي العراق وليبيا خير مثال على ذلك، فالعراق الذي يملك ثروة نفطية هائلة، ونهرين كبيرين وثروة زراعية شاسعة، وليبيا التي تملك هي الأخرى ثروة نفطية كبيرة مقابل عدد قليل من السكان إلى جانب الموقع الاستراتيجي والثروات الأخرى، كل ذلك تبدد بسبب السياسات الخاطئة التي مارستها أنظمتها من خلال إهمال متطلبات الحياة الإنسانية الكريمة والتوسع في التسلح وخوض الحروب في كل الاتجاهات والصراعات الداخلية والخارجية، فلم تستثمر الثروة استثماراً جيداً، بل جنت "الثورة" على "الثروة"! د.سعيد حارب drhareb@gmail.com كاتب إماراتي