حكاية الصين مع أفريقيا حكاية طويلة ذو شجون. ففي حقبة المعلم "ماو تسي تونج" استخدم الصينيون القارة الأفريقية السوداء ساحة لحروبهم الأيديولوجية مع خصومهم الغربيين، وأيضاً كساحة للتنافس على النفوذ مع رفاقهم الشيوعيين في موسكو، وذلك من خلال دعمهم لما سـُمي وقتها بـ "حركات التحرر الوطني" بالسلاح والعتاد ووسائل غسل الأدمغة ككتب التنظيرات الفارغة، وتسجيلات المارشات العسكرية، و"بوسترات" النضال ومقاومــــــة الامبرياليــة والرأسمالية، وأزياء حروب العصابات. لكن بتحرر معظم الأقطار الأفريقية من الاستعمار الأجنبي، معطوفاً على زوال حقبة "ماو" الهوجاء لاحقاً، واعتماد خلفائه، ولاسيما منذ عهد الزعيم الإصلاحي "دينج زياو بينج"، لسياسات خارجية براجماتية وأقل راديكالية، حرص الصينيون أن يعززوا نفوذهم في القارة السمراء من خلال وسائل أخرى. ولأن بكين في حقبة ما بعد "ماو" تحولت إلى قطب اقتصادي وتجــاري وصناعي بارز على المستوى العالمي، فقد اتخذت من الاقتصاد والتجارة والمال (مع شيء من الثقافة ممثلًا في افتتاح معاهد كونفيشيوس لتدريس الصينية وآدابها) سبيلاً إلى إحكام سيطرتها على بعض الدول الأفريقية، وخصوصــاً تلك المعروفة بمخزونها من الطاقة والموارد الطبيعية الأخرى ذات الصلة باستمرار ازدهار الاقتصاد الصيني. وقد ساعدها على ذلك جملة من العوامل منها انشغال الدول الكبرى الأخرى بأماكن وقضايا خارج أفريقيا، وتفشي الفقـر والمرض والجهل واستفحال البطالة، واهتراء البنية التحتية، وغير ذلك من الأمور التي استغلها الصينيون بمهارة لكسـب ود الأفارقة وحكوماتـهم من خلال المشـروعات والقروض والاستثمارات. وقد ظهر هذا المنحى جلياً في آخر مؤتمر وزاري للمنتدى الصيني- الأفريقي (عقد في نوفمبر 2009 في شرم الشيخ)، حيث أعلنتْ بكين على لسان رئيس حكومتها "وين جياباو" أنها خصصت نحو 10 مليارات دولار لتقديمها كقروض ميسرة للدول الأفريقية خلال 3 سنوات، وأنها تنوي لعب دور أكبـــر على الساحة الأفريقية "من أجل تحقيق السلام والاستقرار والتنمية"، وأنها عقدت العزم على إعفاء منتجات الدول الأفريقية الأقل نمواً من تلك التي تقيم معها (وليس مع تايوان) علاقات دبلوماسية من الرسوم الجمركية بنسبة 95 بالمئة، وعلى دعم المؤسسات الصينية المالية المنخرطة في تقديم القروض إلى الشركات الأفريقية الصغيرة والمتوسطة، علاوة على الاستمـــرار في تخفيض أو إلغاء الديون المسـتحقة للصين على بعض الأقطار الأفريقية (عقدت الصين منذ 2006 اتفاقيات بهذا الشأن مع 31 دولة في أفريقيا، وبلغ إجمالي ما أسقطته عنها من ديون نحو 10 مليارات دولار). ومن هنا لم يكن غريباً أن يصل حجم التبادل التجاري ما بين الطرفين في عام 2008 مثلاً إلى رقم غير مسبوق هو 107 مليارات دولار، بعدما كانت قيمتـه في عامي 2000 و 2006 هي 15 و55 مليار دولار على التوالي. وفي السياق نفسه لم يكن غريباً أن تستحوذ الصين بمفردها على 13 بالمئة من إجمالي ناتج القارة من النفط، وأن تنفذ الصين في أفريقيا حتى الآن نحو 1600 مشروع يتراوح ما بين بناء السدود ومحطات الطاقة المائية، وإنشاء المصارف والمستشفيات والمدارس ومراكز مكافحة الملاريا ومحو الأمية ومعامل الغزل والنسيج وتطوير المناجم والبنية التحتية، مثل الطرق وشبكة الاتصالات والمياه. ومن بين أكثر الأمثلة الناجحة للتغلغل الصيني في أفريقيا، ما يحدث اليوم في زيمبابوي التي تحولت من حليف سابق لأوروبا وواشنطن إلى حليف لبكين بعد أن شدد حلفاؤها السابقون الخناق على النظام الديكتاتوري لرئيسها "روبرت موجابي". والمعروف أن الأخير اعتمد في 2004 سياسة "الاتجاه شرقاً"، داعيا بموجبها الصينيين إلى مساعدة بلاده للتحرر من "السيطرة الغربية" في مجالات الإستثمار والإقراض وخلق فرص العمل. وبطبيعة الحال، مثلت تلك الدعوة فرصة العمر للصينيين الذين تزايد عددهم بصورة مضطردة مذاك حتى صاروا جزءاً من المجتمع المحلي، رغم أن مواطني زيمبابوي من الأفارقة ينظرون إليهم بعدم الارتياح، وغالباً ما يصفونهم بـ "قوى الاستعمار والهيمنة الجديدة"، أو يأخذون عليهم ضعف قدراتهم، وبالتالي عدم إتقانهم لأعمالهم وخدماتهم. على أن المثير في هذا السياق هو الدعوة التي وجهها في العام الماضي "جيديون غونو" حاكم المصرف الاحتياطي وأحد المقربين من "موجابي" بضرورة اتخاذ العملة الصينية (اليوان) كعملة رسمية للبلاد، خصوصاً أن زيمبابوي منذ أن ألغت عملتها الرسمية (الدولار) في 2008 بسبب التضخم، لجأت إلى نظام نقدي متعدد العملات يضم الدولار الأميركي، إلى جانب الراند الجنوب أفريقي والبولا البوتسوانية. وبكين، طبعاً، لا تمانع بل تتمنى رؤية الاقتراح مطبقاً على أرض الواقع لأن من شأن ذلك أن يسـاعدها على تحقيق حلمها في رؤية عملتها الوطنية تستخدم في التبادلات التجارية الدولية، أي كما هو حال الدولار الأميركي. ويـُقال إن بكين أوحت إلى بعض أصدقائها داخل الدائرة الضيقة المحيطة بـ "موجابي" أن يستخدموا نفوذهم من أجل إقناع الأخير بالأخذ بنظام نقدي جديد في زيمبابوي يكون عماده اليوان الصيني ودولار زيمبابوي القديم، وليس "اليوان" وحده، وذلك من باب عدم إثارة حفيظة الزيمبابويين المشككين في النوايا الصينية. والحقيقة أن اليوان الصينـــي بات يتألق مؤخراً في التسويات التجارية في أكثر من منطقة، من بينها منطقة الخليج المعروفة تقليدياً بإرتباط عملاتها وتقويم صادراتها النفطية بالدولار الأميركي، وإنْ كان الأمر يقتصر حتى الآن على الشركات الكبيرة في دولة الإمارات، ناهيك عن استبعاد فكرة سداد صادرات النفط الخليجي إلى الصين باليوان في المدى المنظور. ويتوقع البعض أن يزداد هذا التألق مع نمو تجارة الصين مع دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وطبقا لما أورده الملحق الاقتصادي لصحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية (عدد 3 مارس 2012) فإن بكين شجعت الاستخدام الدولي لعملتها منذ 2009 حينما دشنت برنامجاً تجريبياً يتيح لشركاتها العاملة في بعض الأقاليم تسوية الواردات والصادرات باليوان. ومنذ ذلك الحين صار البرنامج يتوسع، حتى زادت نسبة التجارة الصينية التي تسوّى باليوان من 1في المئة في 2010 إلى 7 في المئة في 2011 . ولعل هذه الأرقام، هي التي جعلت مسؤولي "مصرف هونج كونج وشنغهاي" يتوقعون أن تستخدم الصين اليوان في تسوية أكثر من نصف تجارتها العالمية بحلول 2015، أي ما يعادل تريليوني دولار. د. عبدالله المدني باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين البريد الإلكتروني: elmadani@batelco.com.bh