ليست خافية على أحد علاقات العداوة القديمة والمستحكمة بين الهند وباكستان، تلك العلاقات التي تعود إلى عقود خلت تخللتها حروب متكررة بسبب قضايا مزمنة ما زالت مستمرة حتى هذه اللحظة، على رأسها كشمير المتنازع عليها، ولكن مع الميراث الثقيل بين البلدين فقد شهدت العلاقات الثنائية مؤخراً إشارات إيجابية في اتجاه التحسن، على رغم بقاء الاختلافات السياسية قائمة بين البلدين النوويين. فقد عرفت العلاقات الاقتصادية دفئاً ملحوظاً في الآونة الأخيرة كان من أهم تجلياته قرار باكستان خلال الأسبوع الجاري منح الهند صفة البلد الأكثر تفضيلاً على الصعيد التجاري، وهي مكانة متقدمة قد تتيح للهند فرصاً غير مسبوقة في السوق الباكستانية. وجاء ذلك في أعقاب الزيارة التي قام بها وفد باكستاني كبير يضم مئة رجل أعمال إلى الهند تحت شعار "تعرف على نمط الحياة في باكستان"، والهدف هو الترويج للمنتجات الباكستانية من خلال معرض يقام في الهند موزع بين المشغولات اليدوية والأواني المنزلية والأثاث والمنتوجات الجلدية المتنوعة، فضلاً عن بضائع أخرى قدمت من السوق الباكستانية بحثاً عن زبائن لها في السوق الهندية. ولإعطاء أهمية إضافية للمعرض التجاري حرص وزير التجارة الهندي، "آناند شارما"، على افتتاحه شخصيّاً، وسبقه تدشين الوزير صحبه نظيره الباكستاني، أمين فهيم، لطريق برية جديدة موجهة لأغراض التبادل التجاري. وهذه الطفرة المهمة في العلاقات الثنائية قد لا تبدو استثنائية في الظروف العادية بين الدول الجارة ذات الصلات الطيبة، ولكن بالنظر إلى تاريخ صلات الهند وباكستان، فإن هذا التقارب يمثل بالفعل لحظة مهمة في العلاقات الثنائية بين البلدين الجارين. واللافت أن الحرص على تحسين العلاقات التجارية وتنميتها يأتي بالأساس من الجانب الباكستاني، وبالأخص من الرئيس آصف علي زرداري، فهو على رغم مشاكله الداخلية المعقدة متمسك بتعزيز التبادل التجاري لما فيه مصلحة البلدين. ومن تجليات هذا الحرص الباكستاني، وتحديداً من الرئيس الباكستاني أخذه زمام المبادرة وزيارة الهند في الأسبوع الماضي في إطار رحلة شخصية حملته إلى أحد المزارات الإسلامية المعروفة في مدينة "أجمير" بولاية "راجاستان" الهندية، وهو مزار يعود تاريخه إلى القرن الثالث عشر الميلادي. وخلال الزيارة التي حملت أبعاداً دينية التقى آصف علي زرداري برئيس الوزراء الهندي، مانهومان سينج، وتدارسا على انفراد جملة من القضايا الثنائية، وأعقب ذلك غذاء عُقد على شرف الرجلين، ونُقل عن اللقاء أن "زرداري" أبدى إعجابه لرئيس الحكومة الهندي بحجم العلاقات التجارية الكبيرة الذي تجمع الهند بالصين على رغم المشاكل الحدودية المستفحلة بينهما. فقد وصل حجم التجارة بين البلدين إلى 60 مليار دولار خلال عام 2011، والسبب وراء نجاح العلاقات التجارية بين البلدين إلى هذه الدرجة هو قرارهما الحكيم بتنحية الخلافات السياسية جانباً والتركيز على الجانب الاقتصادي والإصرار على عدم رهن مستقبل الشعبين بمشاكل حدودية قادت في وقت سابق إلى حرب ضروس بينهما خلال الستينيات. وحتى بعدما استمر الخلاف الحدودي دون حل وتوترت العلاقات أحياناً تعاظم التبادل التجاري، وتنامت العلاقات الاقتصادية لتبلغ مستويات غير مسبوقة. وهذا النموذج الناجح للعلاقات والتسامي على الخلافات هو ما يسعى "زرداري" إلى استنساخه في علاقات بلاده مع الهند، ولاسيما أن الصين في نظر باكستان حليف قديم ولا ضير في نسج علاقات متقدمة أيضاً بينها وبين الهند. ويعول "زرداري" على التحالف الباكستاني الصيني التقليدي للمناورة وإرسال إشارات إيجابية إلى الهند علَّه بذلك يؤدي إلى إدراج بلاده في خط المبادلات التجارية. ومع أن اللقاء الذي جمع "زرداري" و"سينج" لم يحمل أي تصريحات كبرى غير متوقعة، إلا أن مصادر مقربة أكدت أن الرجلين تطرقا إلى جميع القضايا العالقة التي تشغل الدولتين بدءاً من كشمير التي تحتل موقع الصدارة في الأجندة الباكستانية إلى الإرهاب ومنظمة إلى قضية منظمة "عسكر طيبة" التي تتهمها الهند بالوقوف وراء تفجيرات مومباي وقتل 166 مدنيّاً. ويبدو أن اللقاء رفيع المستوى بين قادة البلدين ومناقشة جميع المواضيع المطروحة فتح شهية باقي المسؤولين لإجراء لقاءات أخرى لتتم جدولة العديد منها في الأيام المقبلة، حيث من المتوقع عقد سلسلة من الاجتماعات على المستوى الوزاري بين الهند وباكستان، وستستضيف إسلام آباد خلال شهر مايو المقبل لقاء مهمّاً بين وزيري داخلية البلدين. وأيضاً سيتم في هذا الإطار بحث بعض النزاعات الترابية بين وزيري الدفاع، ولاسيما فيما يتعلق بمنطقة "سياشين" في كشمير، بالإضافة إلى الشريط المائي المتنازع عليه بين البلدين المعروف باسم "سير كريك"، وكل هذه اللقاءات من شأنها إعادة الزخم لعملية السلام التي انطلقت قبل سنوات بين الهند وباكستان وتعطلت في 2008 بعد هجمات مومباي. وفي حال نجحت المباحثات وتواترت فقد تشهد العلاقات الثنائية بين الجارين نقلة نوعية كبرى، خاصة إذا ما تم التركيز في هذه المرحلة على تطوير التبادل التجاري والصلات الاقتصادية الثنائية باعتبارها الدعامة الأساسية لأي حوار سياسي. ولكن على رغم هذا التقارب الذي نشهده حاليّاً وعودة الدفء إلى العلاقات بين البلدين فيما يتعلق بالجانب التجاري والاقتصادي، تبقى القضايا المطروحة بالغة التعقيد وعلى قدر كبير من الصعوبة، وأي خطوة خاطئة من أحد الجانبين في كشمير، أو وقوع عمليات إرهابية، سيعرض هذا التقدم في العلاقات إلى انتكاسة حقيقية لن تتعافى منها بسهولة. هذا بالإضافة إلى الصعوبات المرتبطة بالوضع الداخلي لكل قائد على حدة، فالرئيس "زرداري" يواجه انتقادات شديدة بسبب زيارته للهند، كما يلاحقه العديد من قضايا الفساد، فيما يواجه "سينج" مقاومة من حلفائه في الحكومة الذين عطلوا العديد من مبادراته السياسية، فضلًا عن تباطؤ الاقتصاد الهندي في هذه المرحلة كجزء من تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية، ليظل الأمل في أن تصدق النيات، ولاسيما أن القائدين معروفان برغبتهما في دفع العلاقات الثنائية قدماً وتجاوز المعوقات المطروحة، ومهما كانت الصعوبات يستطيع "زرداري" و"سينج" العمل ضمن نطاق الممكن سياسيّاً لتعزيز التقارب في المجالات الاقتصادية والتجارية على أمل اجتياز حقول الألغام الكثيرة والوصول بالبلدين إلى بر الأمان.