قلت لصديق إيراني شغل مناصب كبيرة ذات يوم: إن بعض العرب قد ابتهجوا بثورة إيران الإسلامية مثلما ابتهج بها الإيرانيون، وقد تفاءلنا بانتهاء تاريخ الشعوبية البغيض الذي جعل القوميات تتصارع بعد أن جعلها الإسلام أمة واحدة، وقد سعدنا يومذاك بعودة الفرس إلى انتمائهم الإسلامي، وتسميتهم خليجنا المشترك خليجاً إسلاميّاً يلتقي فيه أبناء الحضارة الواحدة. وسررنا حين سمعنا الخميني عام 1979 في باريس يقول حين سئل عن احتلال الشاه للجزر العربية الإماراتية: إن منهج الثورة هو إعادة الحقوق إلى أصحابها، وإنهاء المظالم التي ارتكبها الشاه، لقد قامت ثورتنا لتنصر الحق وتسحق الباطل، وثورتنا عازمة على إعادة الجزر إلى أصحابها. قلت: والعجب أن الثورة الإيرانية لم تبق من آثار الشاه غير احتلاله للجزر العربية، وهي بذلك تقر ما فعل من ظلم واضح وانتهاك لحقوق الجوار والتاريخ والجغرافيا. قال صديقي وهو رجل ثقافة وفكر: ربما يسيطر الأميركان إذن على هذه الجزر وستصير قواعد أميركية. قلت: وهل تعتزم إيران احتلال كل مكان حولها بدعوى خوفها أن يسيطر عليه الأميركان؟ سيكون ذلك عبئاً كبيراً على إيران. قال: لكن العرب شنوا علينا حرباً بقيادة صدام، قلت: كان ذلك مفجعاً للجميع، لكنكم أنتم تجعلون جيرانكم العرب يعيشون حالة قلق، وتضطرونهم إلى التصعيد كي يأمنوا من طموحاتكم التوسعية. قال: نحن لا نملك طموحات توسعية. قلت: لكن العرب يسمعون بعض إذاعاتكم تتحدث عن حق لكم في البحرين، كما أن رفضكم للتحكيم الذي دعتكم إليه دولة الإمارات يعني تمسكاً بالاحتلال، وأنتم تقفون ضد مبدأ الاحتلال عامة، وتقاومون إسرائيل لأنها تحتل أرض فلسطين، ولأنها طردت سكانها، وقد قمتم باحتلال عسكري للجزر في عهد الشاه، وطردتم السكان، وقتلتم حاميات الجزر، واستوليتم بالقوة على أرض تعترفون بأنها أرض عربية، وحسبك تصريحات الخميني وقد وعد بإعادتها إلى أصحابها. قال حين تستقر الأمور في منطقة الخليج لنا حديث آخر. قلت: لن تتمكن دول الخليج من أن تشعر بالطمأنينة وأنتم تصعدون تصريحاتكم، وتتعاملون مع بعضها باستعلاء القوة العسكرية التي كنا نريد أن تكون مصدر أمن وحماية لإخوانكم العرب وهم شركاؤكم في التاريخ كله، لكنها باتت مصدر قلق وريبة. لقد بات العرب يشعرون بأن هذه القوة ستهددهم ما دامت إيران تصر على احتلال أرض عربية، وتنسى تاريخاً ضخماً من الشراكة مع العرب. وفاض بنا الحديث إلى عصر الفتوحات وإلى شخصية مهمة تجمع بيننا نحن العرب وبين شعوب آسيا الوسطى، وهي شخصية المهلب بن أبي صفرة الذي ولد في بلدة دبا (وهي قرب الفجيرة) وفي فتوحاته نقل قبائل الأزد إلى إمارته في خراسان، وكانت تضم إيران كلها وطاجكستان وجزءاً من أفغانستان وتركمانستان، وقد بقي كثير من العرب يعيشون في تلك البلاد، وقد اختلطت الأنساب والأعراق وبات الجميع أسرة واحدة تدين بالإسلام، وتقدس اللغة العربية. وذكرت لصديقي تاريخاً أقرب يعود إلى القرن الثامن عشر يوم كان الساحل الشرقي من الخليج عربيّاً صرفاً، وكان الأمير مهنا الزعابي قائد أول ثورة تحرر عرفها الخليج، وقد ثار على الهولنديين لأنهم احتلوا جزر الرق (خرك وخاركو) وكانت كل المدن الشهيرة في الساحل الشرقي من الخليج تحت الحكم العربي فبوشهر يحكمها آنذاك الشيخ ناصر المطروشي، والرق يحكمها الشيخ نصر الزعابي، وبندر عباس مدينة عربية قام الإنجليز بطرد سكانها العرب عام 1854 والإنجليز هم المسؤولون عن احتلال إيران للجزر الإماراتية عام 1971، رغم أن الخارجية البريطانية أعلنت مرات أن مطالبة الفرس بالجزر المعنية تشبه مطالبتهم بالبحرين، ولاحق لهم في ذلك، ووثائق الخارجية البريطانية منذ ثلاثينيات القرن الماضي عديدة وغنية بهذا الموقف الذي لم تعبر عنه بريطانيا تعبيراً عمليّاً بوصفها كانت المسؤولة عن المنطقة المحمية من قبلها منذ القرن الثامن عشر. لكنها سحبت حمايتها قبل أيام من قيام إيران باحتلال الجزر، وكان الاحتلال قد وقع قبل يومين فقط من إعلان اتحاد الإمارات، وكانت بريطانيا في كل المعاهدات ذات الصلة الموقعة في أوائل القرن التاسع عشر تعترف بسيادة القواسم وتشير إلى أن دولتهم تمتد إلى جانبي الخليج العربي. والمؤسف أن تصف إيران قضية الاحتلال هذه بأنها مجرد سوء تفاهم، وهي الدولة الأجدر بأن تحافظ على حقوق جيرانها، وأن تذعن للتحكيم الدولي الذي اختارته دولة الإمارات ضمن حرصها على إبقاء العلاقة مع إيران قوية ومتينة ليس بحسن الجوار وحده، وإنما لضمانة أمن الخليج كله، وكي لا تكون قضية الجزر بوابة شر يتصاعد، ويكون مهدداً للمستقبل. ودولة الإمارات دولة مسالمة، هي دولة عطاء وبذل وعون لكل الدول العربية والإسلامية بل لكل شعوب الأرض، ولها في قلوب الناس جميعاً مكانة عالية، وقد نسج مؤسسها المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد، رحمه الله، علاقات متينة جداً مع دول العالم ومع شعوبه، وتابع هذه العلاقات صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة وحكام الإمارات جميعاً، مما يجعل التعاطف الدولي مع حق شعب الإمارات كبيراً يتجاوز الالتزام بالقوانين الدولية إلى العرفان بمكانة الإمارات على الصعيد الدولي، وهذا سيكون محرجاً لإيران التي هي بحاجة إلى تعاطف دولي مع قضيتها وفي صراعاتها، وليس لائقاً أن يرى العالم إيران الإسلامية، دولة تعتدي على جيرانها الأقربين، بدل أن تكون مصدر أمن وحماية لهم. ثم إن قضية الجزر ليست قضية إماراتية فقط وإنما هي قضية عربية، لأن هذه الجزر المحتلة أرض عربية لا يمكن التفريط بها، وهي مسؤولية كل عربي وكل مسلم يؤمن بأن العدوان من الباطل الذي بات زهوقاً، ولابد أن شعب إيران الصديق والمعتز بإسلامه لن يرضى بأن يغتصب حقاً لشعب صديق تجمعه به صلات الدين والتاريخ والجوار الأبدي.