جاء خبر إعلان السلطات الأميركية عن تفكيك منظمة إجرامية، كانت تستخدم الإنترنت في تسويق وبيع المخدرات، ليلقي الضوء مرة أخرى على هذا الجانب المظلم من الاستغلال غير القانوني لإمكانيات الشبكة العنكبوتية. فحسب الخبر المنشور بداية هذا الأسبوع، تمكنت السلطات الشرطية في الولايات المتحدة من القبض على ثمانية أشخاص في أميركا وهولندا وكولومبيا، كانوا يديرون شبكة لتوزيع المخدرات ولغسيل الأموال حول العالم، لزبائن في 34 دولة، وبحجم مبيعات بلغ مليون دولار. ويتوافق هذا التطور المتمثل في استغلال الشبكة العنكبوتية في تجارة المخدرات مع نتائج دراسة أجراها باحثون من جامعة مانشستر البريطانية، نشرت في شهر أبريل من العام الماضي، ضمن كتاب بعنوان "شباب في أزمة" (Youth in Crisis)، وخلصت إلى أن مفاهيم وأفكار السلطات لكيفية عمل عصابات المخدرات في الأعوام الأخيرة قد عفا عليها الزمن، ولم تلحق بعد بركب التغيرات التي أحدثتها التطورات التكنولوجية في عالم الجريمة. وتوصل الباحثون إلى هذه الخلاصة من خلال متابعة نشاط ست من عصابات المخدرات في إحدى المدن البريطانية، على مدار ست سنوات، ظهر خلالها أن أفراد تلك العصابات قد تخلوا إلى حد كبير عن ممارسة بيع المخدرات على نواصي الشوارع في الأحياء الفقيرة، ومن ثنايا ظلمات الحواري الضيقة، وأصبحوا يعتمدون بشكل أكبر على أجهزة الكمبيوتر والإنترنت في عرض بضاعتهم والتسويق لها، ثم تحصيل الثمن من خلال خدمات الدفع المعروفة والواسعة الانتشار، مثل بعض آليات الدفع الإلكتروني، وشركات التوصيل والتحويل وغيرها، وفي النهاية إيصال بضاعتهم المميتة إلى أي مكان في العالم باستخدام البريد أو خدمات التوصيل السريع، وأحياناً التوصيل الشخصي إلى منازل المدمنين. ويرى البعض أن هذا التطور الخطير في عالم تجارة المخدرات يعتبر امتداداً طبيعيّاً لظاهرة انتشار المواقع الإلكترونية المتخصصة في بيع الأدوية والعقاقير الطبية، فيما أصبح يعرف بصيدليات الإنترنت (Internet Pharmacy). وتتشابه هذه الصيدليات الإلكترونية مع الصيدليات العادية، بل كثيراً ما تكون جزءاً من شركات ضخمة، تمتلك العديد من الصيدليات العادية، وتعتبر الإنترنت مجرد وسيلة أخرى لبيع منتجاتها. ومثل التطورات التكنولوجية الأخرى، حملت فكرة شراء وصرف الأدوية والعقاقير الطبية عبر الشبكة العنكبوتية الكثير من المحاذير، وفتحت الباب للعديد من المخاطر التي تصل أحياناً إلى درجة السرقة والغش. وأول تلك المحاذير يتعلق بالمواقع والصيدليات التي تصرِف الأدوية من دون وصفة طبية لغرض جذب عدد أكبر من الزبائن وزيادة حجم المبيعات. وربما كانت المشكلة الأكبر المصاحبة لشراء الأدوية والعقاقير الطبية من خلال صيدليات الإنترنت، هي تزايد ظاهرة الإدمان على تلك العقاقير. ففي الولايات المتحدة مثلاً، تشير تقديرات الجهات الفيدرالية إلى أن 46 مليون أميركي فوق سن الثانية عشرة، أو ما يعادل واحداً من كل خمسة أشخاص، قد أساؤوا استخدام العقاقير المسكنة للآلام وذات التأثير النفسي المصروفة بوصفة طبية، على الأقل مرة واحدة في حياتهم. وبالنظر إلى هذا العدد الهائل، وفي ظل القوانين التي تشترط وجود وصفة طبية، فلنا أن نتخيل العدد الذي سينجرف إلى تلك العقاقير في غياب هذا الشرط. وكان من الطبيعي أن تجد العقليات الإجرامية في هذه الظاهرة فرصة لترويج وبيع منتجاتها عبر شبكة الإنترنت، ليس فقط من العقاقير والأدوية، بل أيضاً من المخدرات الخطيرة، مثل الكوكايين والهيرويين، وفي كثير من الأحيان أيضاً تجارة الأسلحة النارية غير القانونية، وترويج المواد الإباحية الخاصة بالأطفال والقصّر. ويقدر حجم التجارة الدولية غير الشرعية في المخدرات عام 2003، بأكثر من 320 مليار دولار سنويّاً، حسب تقارير الأمم المتحدة، وهي التجارة التي أصبح جزء متزايد منها يعتمد على شبكة الإنترنت. وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن الناتج القومي العالمي قدر حينها بـ36 تريليون دولار، فسنجد أن تجارة المخدرات غير الشرعية تشكل نسبة واحد في المئة من إجمالي حجم التجارة الدولية. وهذه الأرقام والنسب، على ضخامتها، تشهد ارتفاعاً وزيادة مطردة بمرور السنين، حيث يقدر حاليّاً أنها قد بلغت 400 مليار دولار، مما يضعها في مصاف حجم وقيمة التجارة الدولية في النفط والأسلحة. وتتمتع المخدرات الاصطناعية بنصيب الأسد من الزيادة الحاصلة في إنتاج واستهلاك المخدرات بوجه عام، حيث أظهر تقرير صدر هذا الأسبوع عن مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة، أن المخدرات الاصطناعية، وخصوصاً تلك المشتقة من مادة الأمفيتامين، تجد انتشاراً وإقبالاً متزايدين، نتيجة لسهولة إنتاجها، ورخص ثمنها. وتحتل أيضاً هذه الأنواع من المخدرات الاصطناعية مكانة متقدمة على قائمة أكثر أنواع المخدرات تداولاً عبر شبكة الإنترنت، بسبب خصائصها السابقة. وفي النهاية تظهر تجارة المخدرات عبر الشبكة العنكبوتية، جانباً آخر مظلماً للتبعات الاجتماعية لانتشار الإنترنت الواسع حول العالم، والتي نجحت أيضاً في إحداث تغيرات سياسية، وتطورات اقتصادية عميقة التأثير. وإن كانت خطورة هذا الجانب، تستدعي من السلطات تطوير مفاهيمها وأساليبها في التعامل مع تجارة المخدرات، التي أصبح جزء منها يتم عبر الحدود والقارات أحياناً، مما يظهر ضرورة تفعيل سبل التعاون بين السلطات الشرطية والقضائية عبر الدول، إذا ما كان سيكتب لجهودها في مكافحة هذا الوباء العالمي أن تواكب التغيرات التكنولوجية المتسارعة.