عندما يغيب منطق الحق والعدالة والرضى بالتحكيم المحايد عند حدوث خلافات بين الدول، ويحل محله منطق غطرسة القوة والتفرد بالقرار وفرض الأمر الواقع، يتحول عالمنا إلى بؤر ملتهبة من الصراعات التي تقوض السلم والأمن لأجل مصالح آنية ومطامع استعمارية. إن استعراض القوة العسكرية على مشارف حدود الجيران والتحدث بلهجة التهديد والاستفزاز، ومحاولة قلب الحقائق التاريخية وتسمية الأمور بغير مسمياتها، وترسيخ احتلال أراضي الغير والإعراض عن الدعوات للجوء إلى تحكيم دولي لدى طرف محايد، ومن ثم محاولة تغيير الواقع السياسي والسكاني والتاريخي للأرض المحتلة، والاستخفاف بتحفظات الجيران على البرامج النووية المشبوهة، وأيضاً التدخل السافر في شؤون الدول بهدف إشعال الفتن الطائفية وخلخلة الأمن، لهي سياسات إيرانية بامتياز انتهجها المحافظون في طهران خلال السنوات الماضية. وكان آخر سياساتهم الزيارة المشؤومة للرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد لجزيرة أبو موسى الإماراتية المحتلة الأسبوع الماضي، ضارباً عرض الحائط دعواته السابقة حول ضرورة التفاهم لتجاوز الخلافات وحل القضايا في إطار الاحترام المتبادل. الملاحظ أن سياسات إيران في التعامل مع جيرانها تطبيق مثالي لـ"سياسة فرض الأمر الواقع"، وهي سياسة لا تعتمد على قوة الحق، بل على حق "القوة"، ولكنها سياسة لا تغير تاريخاً ولا جغرافيا كونها سياسات غير نبيلة ولا نزيهة ومثالية لخلق الأعداء وزيادة الاحتقان واستفزاز الدول والشعوب، وتقويض الأمن والسلم. لا يمكن تفسير تهرب إيران من التحكيم الدولي المحايد لحل النزاع حول الجزر الإماراتية الثلاث طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى إلا أنه هروب المتخوف من قوة "الحق" الذي لدى خصمه، ولذلك يلجأ إلى استعراض القوة العسكرية والاستفزاز واستخدام نبرة الصوت العالي والتصريح الناري، متوهماً أنه بهذه الطريقة يثبت مزاعمه وادعاءاته بأحقيته في امتلاك الجزر. كما أن إيران تدير ملف صراعها حول قضية الجزر منذ احتلالها قبل ما يربو على أربعة عقود بكثير من التلون والمماطلة واللف والدوران. فتارة تلجأ إلى التهدئة بتبسيط القضية وتهوينها بالقول إن المشكلة مع الإمارات حول قضية الجزر هي مجرد سوء تفاهم يمكن حله في إطار الحوار الثنائي والتفاهم المشترك، وتارة أخرى تلجأ إلى التصعيد والتهديد بمجرد ذكر مسألة الجزر بدعم موقف الإمارات في بيان لاجتماع خليجي أو عربي! وكما أشار العديد من المحللين والمراقبين الذين تحدثوا عن زيارة نجاد الأخيرة لجزيرة أبو موسى المحتلة أن التصعيد الإيراني يأتي في وقت زادت فيه عزلة إيران إقليميّاً ودوليّاً بسبب برنامجها النووي، وهروباً من مشاكلها الداخلية وأزماتها الاقتصادية والسياسية المتأججة في الداخل الإيراني. إن دولة الإمارات وبالرغم من مرارة الاحتلال الإيراني لجزرها، انتهجت سياسة حسن الجوار مع إيران لأن ما يمليه الواقع والجغرافيا والتاريخ في العلاقة بين البلدين هو المصلحة الكبرى ما ينبغي مراعاته والمحافظة عليه، مع احتفاظ دولة الإمارات بحقها في إثارة القضية في المحافل العربية والدولية حتى تنصاع إيران لإجراء تحكيم دولي محايد.