تصاعد التوتر مجدداً بين دولتي السودان بما ينذر بخطر داهم ليس على السودان فحسب وإنما على النظام العربي ككل، وذلك بعد أقل من عام على إعلان استقلال جنوب السودان بموجب اتفاقية 2005 لإنهاء النزاع المسلح في السودان بين شماله وجنوبه. وقد فتحت هذه الاتفاقية الباب لآلية حق تقرير المصير لأهل الجنوب بعد مرور ست سنوات على توقيعها، وكان السبب في هذه المرحلة الانتقالية هو إتاحة الفرصة لجعل خيار الحفاظ على وحدة السودان "جاذباً" للجنوبيين، غير أن هذا الخيار الذي أخفق السودان الموحد في إقناع الجنوبيين به نتيجة سلسلة من الممارسات السياسية والعسكرية الخاطئة كان منطقيّاً أن يتجسد على أرض الواقع، بل إن الملفت هو الأغلبية الساحقة التي صوتت لصالح الانفصال مما جعل الأمر معبراً عن حالة من الإجماع الوطني، وهكذا وقع انفصال جنوب السودان، وأُعلنت دولته المستقلة في يوليو الماضي، وإن لم تأتِ ترتيبات العلاقة بين الدولتين على مستوى الحدث، فظل ثمة تنازع حول مناطق حدودية، بالإضافة إلى عدم الاتفاق على ترسيم الحدود بالكامل بين الدولتين. ونتيجة لهذا ميَّز التوتر العلاقات بين الدولتين غير مرة، وآخرها -قبل الأزمة الحالية- الاشتباكات التي وقعت على الحدود بينهما في الشهر الماضي، وبلغت ذروتها يومي 26 و27 من ذلك الشهر إلى أن قامت القوات الجنوبية باحتلال منطقة "هجليج" التي لا نزاع حول تبعيتها لشمال السودان على ضوء حكم محكمة العدل الدولية، وهي منطقة شديدة الأهمية الاستراتيجية لشمال السودان، إذ تذكر التقارير أنها تنتج ما لا يقل عن نصف البترول المتبقي للشمال بعد الانفصال، وتصل تقارير أخرى بهذه النسبة إلى 70 في المئة، وقد بررت السلطات الجنوبية هذا الاحتلال بهجمات القوات السودانية على منطقة "أبينوم" في ولاية الوحدة، مما أدى إلى تصدي قوات الجنوب للهجوم ومطاردة القوات المعتدية وصولاً إلى "هجليج". وتميز سلوك حكومة الجنوب بعد احتلال "هجليج" بالتصعيد المحسوب، خاصة وقد نظرت إلى الأعمال المتكررة من قبل حكومة الشمال باعتبار أن أحد أهم أهدافها هو الاستيلاء على حقول النفط في الجنوب، فأشارت التصريحات الأولى إلى أن احتلال تلك المنطقة لن ينتهي إلا بزوال خطر القوات الشمالية عليها، وتلا ذلك إعلان الجنوب أن أي انسحاب من "هجليج" مرتبط بسحب شمال السودان قواته التي تسيطر على منطقة "أبيي" منذ مايو الماضي، ثم بلغ التصعيد ذروته بتصريح للرئيس الجنوبي مفاده أنه سيرسل جيشه إلى "أبيي" ما لم تفلح الأمم المتحدة في إخلائها من الجيش الشمالي وهو ما رفضته سلطات الشمال تماماً. اتسمت ردود الفعل الشمالية في البداية بالاندهاش نظراً لأن مفاوضات أديس أبابا بين الشمال والجنوب قد توصلت إلى حلول لحوالي 80 في المئة من المشاكل العالقة بين الدولتين وفقاً لمصادر الخارجية السودانية، وطرح وزير الدفاع السوداني رؤية مفادها أن أحداث "هجليج" تشير إلى سعي الجنوب والحركات الشمالية المتمردة المتحالفة معه إلى الاستيلاء على السلطة في الخرطوم. ويتسق هذا مع إشارة البشير إلى أن الجنوب يدعم حركات مسلحة متمردة من ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، كما تحدث البشير عن آلية أخرى لتحقيق الهدف نفسه، وهي آلية "الخنق الاقتصادي" على أساس مكانة "هجليج" في إنتاج نفط الشمال. وعلى ضوء كل ما سبق، وكذلك رفض الشمال مطالب سلطات الجنوب التي اعتبرها مستحيلة كان محتماً أن يكون الرد الشمالي بوقف المسار التفاوضي واللجوء إلى الخيار العسكري، وإعلان التعهد بالاستعادة الفورية لـ"هجليج" بالوسائل العسكرية، غير أن الملفت أن قرابة أسبوع قد مضى منذ وقع احتلال "هجليج" دون قدرة شمالية على حسم الموقف عسكريّاً، وبعد أن كان الحديث عن أن تطهير "هجليج" سيتم في خلال 24 ساعة أصبح الحديث عن شراسة المقاومة الجنوبية، وهكذا فإنه مهما كانت المدة التي ستستعيد فيها قوات الشمال "هجليج" فإن خبرة المواجهة العسكرية بين الشمال والجنوب هذه المرة تعني أن الحل العسكري للمشكلات القائمة بينهما لن يكون ناجعاً، نظراً لما ينطوي عليه من تكلفة عالية لا تتحملها موارد الدولتين المحدودة، كما أن ثمة تداعيات أخرى للأحداث على صعيد الشمال الذي يواجه مشكلات خطيرة في دارفور وكردفان، ولو نجح الجنوب في فرض إرادته بالوسائل العسكرية، أو على الأقل منع الشمال من تحقيق أهدافه بهذه الوسائل، فسيمثل ذلك تشجيعاً يعتد به لحركات التمرد في الشمال لاشك أنه سيفضي إلى تهديد لسلامته الإقليمية. وإذا كان التدهور في العلاقات بين الدولتين قد بلغ المستوى الذي كشفت عنه الأحداث الأخيرة فإن هذا يعني أنهما لا تستطيعان أن تمضيا بمفردهما في طريق الحل السياسي، ذلك أن الأمر يحتاج في هذه الحالات إلى وساطة لعل الجهود الأممية والأفريقية والمصرية تنجح في الوصول إلى الهدف المنشود، وخاصة أن هذه الأحداث أيضاً ستكون لها تداعيات خطيرة ليس على الدولتين فحسب، وإنما على محيطهما المباشر، ومنه المحيط العربي. والواقع أن النظام العربي يعرف عدداً من الحالات المشابهة للسودان لم تصل الأمور فيها إلى حد الانفصال، وإن كانت مقومات المشابهة بينها وبين ما حدث بين الشمال والجنوب قائمة، ولدينا في هذا الصدد على الأقل حالات اليمن والعراق وليبيا ناهيك عن الصومال الذي أصبح وضعه ميئوساً منه، أو بالأحرى لا يثير أي اهتمام عربي، ومن المهم في هذا الصدد بالنسبة للنظام العربي أن تتم الاستفادة من دروس الحالة السودانية، وأول هذه الدروس أن الانفصال في حالات الدول التي توجد فيها جماعات راغبة فيه لن يكون حلاً، وخاصة أن هناك ميراثاً من الشك وربما الدم بين هذه الجماعات والسلطة المركزية، الأمر الذي يعني -كما حدث في حالة السودان- أن الانفصال لن يحول دون استمرار تدهور العلاقات بين الطرفين. وإذا كان الانفصال على هذا النحو لا يمثل حلاً فإن الحل يتمثل في تغيير شامل في البلد المهدَّد بالانفصال يحصل فيه كل ذي حق على حقه في إطار الدولة القائمة، وقد كان هذا هو نهج جون جارانج في قيادته للحركة الشعبية لتحرير السودان، فقد كان حريصاً على أن تكون هذه الحركة "سودانية" تجمع بالإضافة إلى الجنوب الثائر قوى المعارضة في الشمال من أجل تغيير النظام في السودان ككل، وإن لم يمهله القدر لوضع رؤيته هذه موضع التطبيق. وإن المرء ليأمل في أن يهتم النظام العربي بهذه المسألة لا في السودان فحسب وإنما في الحالات المشابهة، لأن خطر الانفصال جدي في هذه الحالات، علماً بأن التدخل المبكر قبل انفجار الأوضاع في البلدان المهدَّدة بذلك سيكون أفضل كثيراً من الانتظار إلى حين وصول الأمور إلى ما وصلت إليه في العلاقة بين شمال السودان وجنوبه، فإذا لم يحدث هذا وثابر النظام على لامبالاته بما يجري في السودان أو التعامل الروتيني معه فلا ينبغي علينا أن نفاجأ بعد مدة ليست طويلة بأن هذا النظام الذي كان يسعى إلى تحقيق الوحدة بين الدول الأعضاء فيه قد أخفق في الحفاظ عليها داخل كل دولة على حدة، ومن هنا لا قدر الله يأتي سيناريو التمزق والفوضى.