يعتبر جون لويس ريفرز (Jean Louis Reiffers) واحداً من أعظم الاقتصاديين الفرنسيين والأوروبيين، وله برامج تنموية متعددة استعانت بها أعظم المؤسسات المصرفية العالمية والاتحاد الأوروبي منذ عقود خاصة في علاقة شمال المتوسط بجنوبه، وتجمعني معه علاقة فكرية في إطار المؤسسات التي نترأسها ونحاول جاهدين إيجاد حلول جذرية للتعاون بين الشمال والجنوب، وأصدقه عندما أرسل لي مؤخراً تقريراً سينشره له المركز المغربي متعدد التخصصات للدراسات الاستراتيجية والدولية مفاده أن الدول العربية يجب أن تطور سياساتها التنموية في المجال الفلاحي وتأمين استقلالها الغذائي وتقنين المضاربات الدولية في المواد الفلاحية على الصعيد الدولي، وأن الحراك الاجتماعي يبلغ أشده عندما يرتفع ثمن ثلاث سلع هي القمح الرطب (أي مادة الخبز والكسكسي) والزيت والسكر. ويحكي في تقريره الأكاديمي ما عايشه هو شخصيّاً مع البنك الدولي ودولة مصر منذ أكثر من ثلاثة عقود، إذ قامت المؤسسة البنكية العالمية بفرض مقولة "لا تدعموا أبداً القمح"، ويكتب الاقتصادي الفرنسي: "وهنا أثير انتباهكم إلى أننا إذا دعمنا ثمن القمح، لن يستطيع فلاح النيل إنتاج القمح لأن الأثمان ستكون منخفضة جدّاً في السوق. فهل هذا خطأ في الاقتصاد؟ هذا صحيح! فإذا كان ثمن القمح منخفضاً جدّاً لأنه مدعم حتى يمكن للأم المصرية أن تصنع الخبز وتغذي أطفالها، فالفلاح لن يستطيع إنتاج القمح، وبالتالي سيزيد الاعتماد على الدولة (انظر أيضاً ما حصل في شمال تونس بهذا الخصوص، وهي المنطقة التي كانت مخزناً للقمح بالنسبة للرومانيين). وقد رفض الرئيس الأسبق السادات هذا الأمر ثلاث مرات، ولكن في المرة الرابعة قال: إنكم تزعجونني، أنا في حاجة إلى المال، سأفعل ذلك؛ وكنت ذاك اليوم في ميدان التحرير، ولا أظن أنني شعرت بالخوف في حياتي مثل ما شعرت به ذلك اليوم، كان الميدان مزدحماً والسيارة تهتز والفنادق الكبرى في القاهرة بدأت تحترق... أسبوع فيما بعد، قال السادات لمسؤولي صندوق النقد الدولي: "رأيتم ما حصل؟" ثم عاد لدعم القمح. وقد تصادف أن كنت موجوداً بعد ثلاثة أشهر في كل من الرباط وتونس حيث حصل نفس الشيء ولكن بشكل أقل عنفاً، لأن المسألة كانت تتحرك عموماً بشكل أكبر في القاهرة. لقد حصل نفس الشيء قبل الثورات العربية بقليل، حيث كانت هناك زيادة 30 في المئة في ثمن القمح الرطب، و20 في المئة في ثمن السكر و40 في المئة في ثمن الزيت ثلاثة أشهر قبل الثورة. وتحدثنا عن التمرد في الصحافة. فليس من الممكن في العالم المعاصر أن تؤدي أم الأسرة المصرية أو المغربية أو التونسية 30 في المئة إضافية على ثمن القمح في ظرف ثلاثة أشهر وخاصة مع مستوى الدخل المتوسط. وما هو السبب؟ السبب مفاده أن هناك حرائق في روسيا مما أدى إلى انخفاض في العرض المتعلق بالقمح، ثم إن التجار المضاربين في القمح في شيكاغو يتوقعون ارتفاعاً في الأسعار، وبالتالي بدأوا يوقعون عقوداً للشراء في المستقبل (فأنتم متأكدون من الربح إذا ارتفع الثمن وفي الوقت نفسه ترفعون من الثمن)، مما سيكون له أثر على الأثمان. وإذا لم تستطع الأم إطعام أسرتها؟ يجب علينا أن نشرح هذه الآليات وأن نحتج وأن نتصور عروضاً مناسبة. وإذا أردنا أن نذهب أبعد من ذلك، علينا أن نطرح مسألة الاستقلال الغذائي وأيضاً مسألة التنمية القروية. وهذا كلام كله صحيح... ولهذا السبب تجنح العديد من الدول بما فيها المغرب وفرنسا إلى ما يمكن أن يسمى بنظام المقاصة مع درجة مرتفعة في الدول العربية، لأن السلم الاجتماعي غالباً ما يكون منوطاً بدعم الدولة للمواد الأولية... وهذا النظام يهدف إلى تأمين التزود بالسلع وضمان استقرار مستوى الأسعار في السوق الداخلية، وذلك بتجنب نقص أو زيادة التموين، ودعم الصناعات الفلاحية... الخ. وبعبارة أخرى يعني استقرار الأسعار تثبيت السلم الاجتماعي، لأنه لا يمكن تصور السلم الاجتماعي في الدول العربية دون تدخل الدولة في ترشيد أسعار ورواج المنتوجات المختلفة، وهنا قصة الاحتجاجات العربية (مصر، الجزائر، تونس، المغرب...) في نهاية سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي التي ينساها جل المحللين اليوم والتي ذكرها بحق الأستاذ المبرز جون لويس ريفرز، فعندما قررت هذه الدول اتخاذ إجراءات للتقويم الاجتماعي، زيدت أسعار المواد الأساسية، فعمت في ذلك الوقت الاحتجاجات التي عرفت حينها باسم "انتفاضة الخبز" وفي غياب لوقود الفيسبوك والتويتر والفضائيات والآيفون وغيرها... ومن هنا وضعت الدول منذ تلك الفترة سياسات استباقية تمنع تكرار هذه الاحتجاجات، على رأسها دعم الأسعار من مالية الدولة حتى كثرت المديونية في غياب سياسات تنموية بديلة تغني الدولة عن الدخول في دعم لا متناهٍ للمواد الأولية. وموازاة مع ذلك، اتسمت تسعينيات القرن الماضي بإصلاحات مهمة للسياسات الاقتصادية التي عمقت سياسات التقويم الهيكلي الذي وضع في أواسط الثمانينيات، غير أنه يجب ألا يخفي التقدم الذي عرفه التحرير الاقتصادي مع بعض المفارقات، لأن تعميم القطاع الخاص لا يعني ليبرالية بدون حدود، فالدولة تظل في كل الأحوال عاملاً رئيسيّاً للتجميع وفاعلاً اقتصاديّاً ومتدخلاً لا يمكن تفاديه، فبرامج التقويم التي يمولها الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، تجد حدودها هنا، لأن التقويم كما تشير إلى ذلك بياتريس هيبو "يتم بشكل تدخلي"، حيث يتم تنفيذه بنوع من الضغط حينما لا يكون مفروضاً، وهذه الدينامية تأتي من الإدارة بدون شك (...) لأن التقويم سيرورة سياسية، تترجم، في نفس الوقت، إرادة التحديث «من الأعلى» وإرادة حثيثة لمراقبة سياسية أقوى"... وللحديث بقية.