في أميركا يبدو أن الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري قد حُسمت مع انسحاب المرشح ريك سانتوريم، لكن في فرنسا تحتدم معركة انتخابية مختلفة، بينما لا تفصلنا عن موعد الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية سوى أقل من أسبوعين. وتشير آخر استطلاعات الرأي إلى أن المرشحين الرئيسيين اللذين يتنافسان على قصر الإيليزيه، وهما ساركوزي وهولاند، مع تقارب نتائج شعبيتهما التي تحوم حول 30 في المئة، لكن الأهم هو المرشح "جون لوك ميلينشو"، زعيم حزب اليسار المتشدد الذي صعد في الأيام الأخيرة ليحتل المرتبة الثالثة بشعبية بلغت 15 في المئة متقدماً بنسبة طفيفة على نظيرته في اليمين المتطرف "مارين لوبين" من الجبهة الوطنية. وليس غريباً في فرنسا أن يتنافس مرشحون محسوبون على أقصى اليمين أو اليسار على منصب الرئاسة، كما أن طبيعة النظام الانتخابي الفرنسي تضفي نوعاً من الإثارة على هؤلاء المرشحين في أقصى الحياة السياسية، فعلى غرار الانتخابات التمهيدية في الولايات المتحدة يساهم نظام الاقتراع الفرنسي الموزع على جولتين في غربلة الغث من السمين، وفي الوقت نفسه يساعد هذا النظام الناخب الفرنسي على إظهار ميوله بكل حرية حتى تلك الأكثر تشدداً، قبل أن يستدركوا الأمر خلال الجولة الثانية من الانتخابات. لكن هذا المنطق قد يفشل بصورة كارثية كما شهدنا في انتخابات 2002 عندما احتج ناخبو اليسار الذين استاؤوا من مواقف "جوسبان" عديمة اللون، بمنح أصواتهم للخصوم أو الامتناع نهائياً عن التصويت، فجاءت الصدمة بصعود مرشح اليمين المتطرف جون "ماري لوبين" ليحتل المرتبة الثانية بعد شيراك، ما دفع الكتلة الانتخابية نفسها التي قاطعت التصويت عقاباً للاشتراكيين إلى الهرولة نحو شيراك إنقاذاً للموقف. غير أنه اليوم وبفضل مرشح متحمس مثل "ميلينشو"، ليس وارداً امتناع الاشتراكيين عن التصويت، فقد بدأ مرشح أقصى اليسار صعوده خلال حشد انتخابي في بلدة "باستيل"، حينما ارتدى ربطة عنق حمراء وخاطب جمهوراً قدر بحوالي 100 ألف فرنسي قدموا لسماعه. وخلال التظاهرة التي زينتها الأعلام الحمراء ورموز الثورة الفرنسية، دعا إلى "ثورة مدنية" ضد بلد "شوهته الفوارق الطبقية"، محذراً من "انفجار البركان الفرنسي"، لكن بدلاً من الانفجار تفرق الحضور بهدوء وذابت الجموع في أنفاق المترو والمقاهي وذهب كل إلى سبيله. ومع ذلك لم يكن خطاب مرشح اليسار مطمئناً للعديد من الفرنسيين الذين أبدوا مخاوفهم من مواقفه. وفيما عدا رجال الأعمال والشركات المتوجسة من خطاب "ميلينشو"، يبقى المتضرر الأكبر هو هولاند نفسه الذي يراقب بكثير من القلق كيف تُختطف منه أصوات الناخب اليساري، فهولاند المعروف لدى الفرنسيين بـ"السيد عادي"، صعد إلى قمة الحزب فقط بسبب المشاكل التي تعرض لها "دومينيك ستروس كان". وإذا كان هولاند يشبه شخصاً آخر فهو "رومني" كونهما يقتسمان خلفيتهما التكنوقراطية وقلة تجربتهما في الإدارة، لكن هولاند لم يخف استعداده للتودد إلى اليسار علَّه يظفر بأصواتهم. وهو ما قام به فهلا عندما تعهد بفرض ضريبة على الأغنياء نسبتها 75 في المئة، في محاولة للمزايدة على "ميلينشو" الذي وعد أيضاً بترسيخ البرامج الاجتماعية وسياسة الرفاه. غير أن اقتراح هولاند سرعان ما ارتد عليه، ما دفعه خلال زيارة تواصلية مع الجالية الفرنسية التي هربت أصلاً إلى لندن بسبب الضرائب المرتفعة، لتهدئتهم قائلاً: "أنا لست خطيراً". هذا التعليق تلقفه "ميلينشو" بطريقته ليقول: "أما أنا فإني خطير"، والخطورة أمر ليست مقتصرة على مواقف "ميلينشو" اليسارية، بل تتصاعد أكثر مع مرشحة اليمين المتطرف "لوبين"، فرغم محاولاتها النأي بحزبها عن مواقف أبيها المعادية لليهود والمنكرة للمحرقة، فقد استعاضت عن ذلك بمعاداة المسلمين من خلال تصريحات مستفزة كتلك التي اعتبرت فيها إقامة الصلاة في الشوارع "احتلالاً جديداً" لفرنسا. وأضافت أن أعدداً كبيرة من أمثال "محمد مراح" تدخل التراب الفرنسي يومياً، بل جمعت "لوبين" بين الخوف من الهجرة والإسلام ومناهضة العولمة، فعلى غرار سلفها "جوندارك" التي اعتبرت كل من باع فرنسا خائناً، ترى مارين أن كل من سلم فرنسا، ليس للإنجليز هذه المرة، بل لهياكل الاتحاد الأوروبي في بروكسل وقوى العولمة، هو خائن أيضاً. والمفارقة هنا أن المرشحين "ميلينشو" و"لوبين"، رغم الاختلافات الأيديولوجية الجوهرية بينهما، إذ لا يكف مرشح اليسار عن التنديد بعنصرية "لوبين"، فإنهما يلتقيان في عدائهما للعولمة والاتحاد الأوروبي. فعلى غرار "لوبين" يندد "ميلينشو" بالليبرالية الاقتصادية للاتحاد الأوروبي معتبراً أنها رهنت الشعوب الأوروبية. وكلاهما ينتقدان النظام السياسي والاقتصادي الفاسد... فهل نشهد إعادة لسيناريو 2002 في الانتخابات القادمة؟ الواقع أن ذلك مستبعد في ظل استطلاعات الرأي التي تؤكد انحصار التنافس بين ساركوزي وهولاند مع فوز متوقع لهذا الأخير في الجولة الثانية، لكن من شأن حصول "لوبين" أو "ميلينشو" على المرتبة الثالثة تعقيد الجولة الثانية من الانتخابات، فهولاند سيواجه خطورة الارتهان لأجندة "ميلينشو" اليسارية، فيما سيجد ساركوزي نفسه مضطراً لتصعيد خطابه ضد الهجرة والمسلمين لاجتذاب أصوات اليمين المتطرف. روبرت زارتسكي أستاذ التاريخ الفرنسي بجامعة هوستون الأميركية ------------------------------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشونال"