يؤكد حزب العدالة والتنمية (الإسلامي) في تركيا على التكوين والوجهة العلمانية للدولة التركية بشكل لا مواربة فيه، كما يفصل البرنامج السياسي المطول للحزب، المنشور في موقعه الرسمي على شبكة الإنترنت. تقول مقدمة البرنامج السياسي "إن حزبنا يشكل الأرضية لوحدة وتكامل الجمهورية التركية حيث العلمانية والديمقراطية ودولة القانون وصيرورات الحضارة والدمقرطة، وحرية الاعتقاد، والمساواة في الفرص تعتبر أموراً جوهرية". ثم تفاخر المقدمة بإنجازات الدولة التركية وتقتبس عن مؤسسها مصطفى كمال أتاتورك (الذي تظهر صورته جلية مع العلم التركي على الصفحة الأولى للموقع الإلكتروني الرسمي للحزب) وتقول: "إن جمهوريتنا ليست عاجزة. والحل يكمن في الشعب نفسه. وكما قال العظيم أتاتورك فإن القدرة على إنقاذ الأمة تكمن في عزمها وتصميمها". لماذا لا يجد إسلاميو تركيا بدّاً من تضمين هذه التأكيدات في أدبياتهم مقرين ومادحين أتاتورك الذي يراه غيرهم من الإسلاميين "الرجل الصنم" الذي دمر الخلافة الإسلامية وأنهى حكم سلاطين بني عثمان؟ الجواب على هذا السؤال يكشف مقدار الوعي المزيف والقراءة الانتقائية (والساذجة) للتاريخ المُشتهرة في أوساط كثير من الإسلاميين غير الأتراك. يعرف قادة ومؤسسو حزب العدالة والتنمية الأتراك أنه من دون أتاتورك لما كانت هناك دولة تركية كما نعرفها الآن ولكانت تقاسمتها الدول الكبرى بعد الحرب العالمية الأولى وتقطعت أوصالها بين دول الحلفاء وروسيا واليونان، وهو تقاسم كان يتم عبر اتفاقيات مذلة وقعها السلاطين الذين كانوا، من أجل كرسي السلطنة وبقائهم عليه ولو بشكل رمزي ومن دون أي سيادة، يمهرون تواقيع الاستسلام والتمزيق واحداً تلو الآخر. وكان مصطفى كمال أتاتورك أحد الذين تمردوا على سياسات الأستانة التي تلاحقت تنازلاتها للغرب ووضعت تركيا على شفير التقسيم والتجزئة. وكان الغرب يكبل السلاطين بالسياسات والشروط المختلفة، فيما كان أتاتورك يحارب أساطيل الغرب في الدردنيل والروس في شرق الأناضول حتى لا تسقط الأراضي التركية تحت الاحتلالات المختلفة. والفرق بين آخر السلاطين في أواخر الدولة العثمانية وأتاتورك من منظور الخلافة الإسلامية والعلاقة مع الغرب هو التالي: السلاطين احتموا برمزية الخلافة وصورتها في المخيلة الإسلامية واستغلوها إلى أبعد مدى وظلوا يزعمون أنهم ممثلو الإسلام والمدافعون عنه. ولكن عمليّاً، على أرض الواقع لم يكن لذلك الزعم أي معنى، لأن الهدف الحقيقي كان التلاعب بالعواطف الإسلامية للشعوب من أجل الإبقاء على كرسي السلطنة والسلالة العثمانية التي فسدت إلى أبعد مدى في أواخر حكمها وكانت تقدم التنازل تلو الآخر للغرب على حساب سيادة الدولة وأراضيها. وكان السلاطين الضعفاء في إسطنبول قد بدأوا يوقعون المعاهدة تلو الأخرى مع القوى الكبرى ويقدمون بها التنازلات التي قطعت أرجاء الإمبراطورية ورهنتها للخارج، بدءاً من برنامج "ميرتزيج" الإصلاحي سنة 1903 الذي وافق عليه السلطان عبدالحميد الثاني وبموجبه تخضع قوات البوليس التركي في مقدونيا لمراقبين دوليين، ووصولاً إلى معاهدة سيفرس عام 1920 التي مزقت بقايا الإمبراطورية ووافق عليها سلطان إسطنبول ووزيره الأعظم ورفضها أتاتورك والحركة الوطنية التركية. كان السلاطين خاضعين للسياسات الخارجية وكانت المقايضة المأمولة أن يؤمّن لهم ذلك الخضوع بقاء الحكم. وفي المقابل، اقتنع مصطفى كمال خريج المدارس والكليات العسكرية، والذي قرأ فولتير وجان جاك روسو في الثانوية وتعلم الفرنسية، أن تقدم تركيا وقوتها ووقوفها في وجه الغرب لن يكون إلا عبر تبني النموذج الغربي نفسه، أي الوقوف في وجه الغرب عبر امتلاك أسلحة الغرب نفسه. ومن هنا فإن الفهم الصحيح لأتاتورك ونموذجه ومنطلقات حداثته تأتي من هذه النقطة تحديداً: تبني منهج الغرب في الحداثة والتقدم، ومقاومة إمبريالية الغرب وجيوشه وهيمنته في الوقت نفسه. وعندما كان الضابط الصغير مصطفى كمال في أواسط الثلاثينات من عمره قاد معركة الدردنيل الشهيرة التي وضعته على مراتب سلم المجد العسكري وكانت بداية صعوده المُبهر. وقد اشتهرت تلك المعركة باسم آخر هو "غاليبولي" وأصبحت مما يُدرس في الكليات العسكرية بسبب حنكة وإصرار مصطفى كمال وشجاعته طوال أشهر التي قوضت خطط تشرتشل يومها لإحكام الحصار على تركيا من جهة الغرب. ومضيق الدردنيل هو الخاصرة الرخوة التي إن تمت السيطرة عليها فإن جيوش الكومنولث يومها (الإنجليز، والأستراليين، والكنديين، بالإضافة إلى الفرنسيين واليونان) ستطبق على بحر مرمرة وتصبح إسطنبول بعد ذلك قيد السقوط شبه المحتم. وخلال أسابيع القتال الطويلة والمريرة التي سقط فيها ألوف المجندين (ومنهم كتائب عديدة من العرب الذين تم تجنيدهم من بلاد الشام) كان على مصطفى كمال مواجهة أسطول كبير من سفن الحلفاء التي أحاطت بالجزيرة الصغيرة وأرادت اكتساحها ودكتها بالمدفعية لفترات طويلة متواصلة. وفي لحظة فاصلة في تلك الأسابيع المطيرة والعاصفة والمتوترة شن الحلفاء هجوماً واسعاً أدى إلى هرب الجنود الأتراك من منطقة الشاطئ باحثين عن مناطق أكثر أمناً، وبدا أن تلك المعركة هي الفاصلة وإثرها ستسقط الجزيرة والمضيق بيد الحلفاء. يومها وقف أتاتورك بقامته الطويلة ووجهه الصارم في وجه الجنود الراكضين وأوقفهم، وصرخ في وجوههم صرخته التي دخلت التاريخ وأدخلته إليه قائلًا لهم: "لا أتوقع منكم أن تهاجموا، لكني آمركم بأن تموتوا! وفي الوقت الذي يمضي حتى نموت جميعاً، سوف تأتي قوات إضافية وقادة آخرون ليأخذوا مكاننا". في تلك الأثناء كانت المؤامرات تحاك ضد الضابط الذي حمى الخاصرة التركية وتم استدعاؤه إلى إسطنبول، وعمليّاً إبعاده عن الجيش. وفي قتاله اللاحق ضد اليونانيين والروس كان أتاتورك قد تمرد على قرارات إسطنبول التي أمرته بالتخلي عن الجيش خضوعاً لضغوط الخلفاء ونقمتهم على إنجازاته. وعندما بزغ نجمه العسكري أكثر وقاد الجيش دفاعاً عن أنقرة ضد حصار الجيش اليوناني كان قد وصل مرحلة يصعب على أحد في تركيا مجاراته فيها، فيما كان السلاطين يصبحون من مخلفات الماضي العتيق. إن حداثة أتاتورك العسكرية والتعليمية هي التي أنتجت منه قائداً فريداً قاتل ببسالة واستنارة ضد قوات الحلفاء من جهة وضد أطماع الروس من جهة ثانية وضد اليونانيين الذين احتلوا إزمير وحاصروا أنقرة من جهة ثالثة. ولكنه في الوقت نفسه أدرك أن حربه هي ضد أطماع الغرب وليس ضد حداثة الغرب وعلومه التي يجب أن تتبنى لأنها هي التي تحقق القوة والاستقلال الحقيقيين. أما انتماء سلاطين بني عثمان للماضي فهو ما قوض دولتهم وحولها إلى رجل مريض لا حول له ولا قوة.