تشهد غالبية الدول والمجتمعات البشرية تغيرات ديموغرافية كبيرة تتمثل في تفاقم ظاهرة الشيخوخة في المجتمعات، أو ارتفاع متوسط أعمار الأفراد، مع ما تتضمنه هذه الظاهرة من ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية للمسنين، بالإضافة إلى الزيادة السكانية المطردة، وما يتبعها من زيادة في حجم المصادر المالية المخصصة للرعاية الصحية. وإذا ما أضفنا إلى هذا وذاك الانتشار الواسع للأمراض غير المعدية الذي وصل في بعض الأحيان إلى درجة الأوبئة، مثل أمراض القلب والسمنة والسكري، واتساع النطاق الجغرافي لهذه النوعية من الأمراض، وتزايد تغلغلها الاجتماعي بحيث لم تعد مقتصرة فقط على الطبقات الاجتماعية القادرة ماديّاً أو على سكان الدول الغنية، فسندرك بسهولة أن نظم الرعاية الصحية حول العالم تتعرض حاليّاً لضغوط مالية غير مسبوقة، وهي الضغوط التي تفاقم من أثرها التكلفة الباهظة للتقنيات الطبية الحديثة. وتهدد هذه الضغوط بانهيار مالي لنظم الرعاية الصحية، وتدفع بقضية التمويل الصحي إلى رأس قائمة الأولويات السياسية والاقتصادية للعديد من الدول والمجتمعات، وخصوصاً في الدول النامية والفقيرة، حيث تعتبر من أهم العقبات التي تهدد جهود مكافحة الفقر، وتبطئ من معدلات التنمية. وتتنوع وتتعدد أشكال وأنواع نظم الرعاية الصحية حول العالم إلى حد كبير، إلى درجة يمكن معها القول إن أشكال وأنواع نظم الرعاية الصحية تقارب عدد دول العالم، بناء على أن لكل منها تاريخه الخاص وتركيبته التنظيمية الفريدة. ولكن بغض النظر عن شكل أو نوع نظام الرعاية الصحية، فإن جميع النظم يتم تمويلها من خلال واحد -أو أكثر- من خمسة مصادر أساسية، هي: 1- الضرائب العامة التي تفرضها الحكومة، أو الولاية، أو المقاطعة، أو أحياناً حتى المدينة. 2- نظام الضمان الصحي الاجتماعي. 3- التأمين الصحي الخاص. 4- دفع التكاليف بشكل مباشر من قبل المستفيد. 5- المنح والتبرعات والهبات التي تقدمها الجهات والمؤسسات الخيرية. ولذا تتميز غالبية الدول بنظم رعاية صحية يتم تمويلها بخليط مميز وفريد من المصادر الخمسة تلك، وإن كان توزيع ومقدار مساهمة كل من هذه المصادر يختلف من بلد إلى آخر، وحتى في البلد نفسه خلال الفترات الزمنية والتاريخية المختلفة، حيث يتم في جميع الدول والنطاقات الجغرافية، تبني سياسات صحية خاصة، من قبل الحكومة أو القطاع الخاص، تؤثر على مصادر التمويل والتركيبة المالية لنظام الرعاية الصحية. وكثيراً ما يترافق نظام الرعاية الصحية الممول من عوائد الضرائب وبقية المصادر المالية العامة، بنظام رعاية صحية مماثل ممول من رؤوس أموال استثمارية ربحية، يخدم الطبقات القادرة المادية على دفع تكاليفه بشكل مباشر، أو من خلال التأمين الصحي الخاص. وهذا النظام الثنائي في تقديم خدمات الرعاية الصحية يثير دائماً المقارنات بين طرفيه العام والخاص، من ناحية مستوى الرعاية الطبية، وكفاءة الإدارة، ومدى قيمة العائد النهائي مقارنة بحجم ما ينفق من أموال في كلا النظامين، حيث كثيراً ما يتعرض النظام المعتمد على القطاع الخاص، وخصوصاً إذا كان أحاديّاً، بمعنى عدم وجود نظام صحي حكومي مواز واسع الاستخدام، كما هو الحال في الولايات المتحدة، لانتقادات حادة، فيما يتعلق بفقدانه لعدالة التوزيع. فنظام الرعاية الصحية في الولايات المتحدة يتميز باعتماده شبه التام على القطاع الخاص، بينما يتراجع دور الحكومة أو القطاع العام إلى أقل حدوده على الإطلاق. وعلى رغم أن نظام الرعاية الصحية الأميركي يعتبر الأكثر تكلفة والأفضل تمويلًا حول العالم على الإطلاق، إلا أنه دائماً ما يفشل في تحقيق مستويات مقاربة من المستويات التي تحققها النظم الصحية الحكومية حول العالم، وخصوصاً في الدول الأوروبية، على صعيد الكثير من القياسات التي تقـيم من خلالها جودة الرعاية الصحية، مثل معدل الوفيات بين المواليد الجدد، ومتوسط طول العمر، وفرص الشفاء من الأمراض السرطانية. وبغض النظر عن السياسة المالية الصحية المتبعة، يعتبر التوجيه المناسب للمصادر المتاحة، بشكل يسمح باستغلالها بأكبر قدر من الكفاءة والعدالة، أحد أهم مكونات فعالية نظام الرعاية الصحية. فعلى رغم أن الحكومات تتمتع بالسلطة والصلاحية للتحكم في المصادر المالية المتاحة، إلا أنه يمكنها أيضاً تشجيع الاستخدام الأفضل والتوظيف الأمثل، لما هو متاح من مصادر للجهات الحكومية وغير الحكومية الناشطة في مجال الرعاية الصحية. وهو ما يجعل من كيفية إدارة نظام الرعاية الصحية، مؤشراً على التزام المجتمع بالعدل والمساواة بين أفراده. ولذا يصبح إيصال هذا الحق غاية اجتماعية، لابد أن تتخطى العقبات الاقتصادية والسياسية. وهو أيضاً الحق الذي يمكن توفيره لأفراد المجتمع من خلال تدابير وإجراءات خاصة، مثل دعم الجهود التي ترقى بالمستوى الصحي للجميع. ولكن تظل فعالية هذه الجهود في تحقيق الهدف المرجو منها محددة بالظروف الاقتصادية والسياسية والبيئية التي يتم في إطارها توفير الرعاية الصحية. فمن المعروف أن الظروف الاقتصادية مثلاً لها تأثير بالغ الأهمية على صحة أفراد المجتمع، من حيث نوعية الأمراض وأسباب الوفيات ومستويات الخدمات الصحية. وهو ما يعني أن السياسات الاقتصادية التي تجعل من المساواة الصحية إحدى أهم أولوياتها من شأنها في النهاية أن ترفع من مستوى الحالة الصحية والرفاهية الاجتماعية للسكان.