تعد زيارة رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون إلى ميانمار (بورما سابقاً)، يوم الجمعة الماضي، تاريخية بالفعل كما وصفتها كل من لندن ورانجون، وذلك أولاً لاقترانها بالرفع التدريجي للعقوبات الغربية عن بورما، وثانياً لأنها أول زيارة يؤديها زعيم غربي إلى هذا البلد منذ الانقلاب الذي أقام حكماً دكتاتورياً دام نصف قرن... وثالثاً بالنظر إلى اللقاء الذي جرى خلالها بين كاميرون وزعيمة المعارضة البورمية "أونج سان سو تشي"، والذي أشاد في نهايته بالنضال السياسي للزعيمة البورمية، قائلاً إنها أصبحت "رمزاً للديمقراطية" وإنها جسدت "مثالاً لامعاً لكل الشعوب المتطلعة إلى الحرية والديمقراطية والتقدم في أنحاء العالم". وتعد "سو تشي" اليوم أشهر شخصية سياسية في ميانمار على الإطلاق، لما تتمتع به من تأييد شعبي واسع كسبته من دعمها للنضال اللاعنفي، لاسيما عقب الانتخابات التي فاز بها حزبها عام 1991 وألغى العسكريون نتائجها ووضعوها شخصياً قيد الإقامة الجبرية. ولدت "أون سان سو تشي" في بورما عام 1945، أي قبل عامين من استقلال بورما الذي كان تتويجاً لمفاوضات قادها والدها "أون سان" مع المملكة المتحدة، لكنه اغتيل في يوليو 1947، قبل ستة أشهر على إعلان الاستقلال، ولم يكن عُمْر "سو تشي" يتجاوز العامين، فتربّت على يد والدتها في رانجون، ومعهما شقيقاها، لكن أحدهما غرق في حمام السباحة، والآخر هاجر إلى أميركا. وقد انخرطت والدتها في الحياة العامة وأصبحت سفيرة في دلهي بالهند عام 1960. وكانت "سو تشي" قد تلقت تعليمها الأول في المدرسة الكاثوليكية برانجون، قبل أن تلتحق بوالدتها في الهند لتكمل المرحلة الثانوية في مدرسة "شري رام" بنيودلهي عام 1964. وبعدئذ سافرت إلى بريطانيا حيث درست فلسفة السياسة والاقتصاد في جامعة أكسفورد. وبداية من عام 1967 عملت في مقر الأمم المتحدة بنيويورك، وأصبحت مساعداً لمدير شؤون الإدارة والميزانية في المنظمة، قبل أن تستأنف دراستها الأكاديمية لتحصل على شهادة الدكتوراه من كلية الدراسات الشرقية والأفريقية في لندن عام 1985. وفي أكسفورد تعرفت "سو تشي" على الدكتور مايكل أريس، وهو تبتي مولود في كوبا، يعد خبيراً دولياً في ثقافة بوتان والتبت وجبال الهملايا، وله العديد من الكتب حول البوذية في هذه المناطق... فتزوجت به عام 1972، وأنجبا "ألكسندر" (1973) و"كيم" (1977)، وظلا مقترنين حتى وفاته عام 1999. عادت "سو تشي" إلى بورما عام 1988 للاعتناء بأمها المريضة، لكن عودتها تزامنت مع أحداث عاصفة في البلاد، حيث كان الجنرال "ني وين"، زعيم "الحزب الاشتراكي" الحاكم، يفقد السيطرة تدريجياً بسبب المظاهرات المطالبة بالديمقراطية في جميع أنحاء بورما، والتي لم تخمدها استقالة "وين" وقيام مجلس عسكري حاكم جديد حمل اسم "مجلس الدولة لاستعادة النظام وإرساء القانون". وتصدرت "سو تشي" الحركة الديمقراطية في بورما، وقادت في يوم 8 أغسطس 1988 مظاهرة حاشدة تدعو للتغيير وإقامة النظام الديمقراطي، فتم قمعها بعنف شديد، ثم قادت مظاهرة أخرى في 26 أغسطس. وبعد إعلان قيام المجلس العسكري الجديد في سبتمبر، أسست "سو تشي" حزب "الرابطة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية"، وأصبحت أمينه العام في 20 يوليو 1989، وفي اليوم نفسه تم اعتقالها ووضعت تحت الإقامة الجبرية، ثم عُرض عليها الإفراج شريطة أن تغادر البلاد، لكنها رفضت العرض وظلت قيد الإقامة الجبرية. بيد أن استمرار الضغط الشعبي وتصاعده، اضطر المجلس العسكري لإجراء انتخابات عامة في 1990، فازت فيها "الرابطة الوطنية للديمقراطية" بنسبة 58?7 في المئة من الأصوات، مما يعني وجوباً تعيين "سو تشي" رئيساً للوزراء. لكن بدلاً من ذلك أعلن العسكريون إلغاء نتائج الانتخابات، ووضعوا "سو تشي" مجدداً تحت الإقامة الجبرية، حيث لم تستطع منذ ذلك التاريخ لقاء أطفالها المقيمين في المملكة المتحدة، بينما مات زوجها بعد سنوات من المعانات مع سرطان البروستاتا ولم يسمح له بدخول بورما لرؤيتها... مما أثار غضب المجتمع الدولي ضد الحكومة العسكرية في رانجون وأكسب "سو تشي" تعاطفاً داخلياً وخارجياً واسع النطاق. أما الداخلي فآخر مؤشراته فوز حزبها في الانتخابات البرلمانية التكميلية، مطلع إبريل الجاري، بـ43 مقعداً من أصل 44 كان يتنافس عليها مع الأحزاب الموالية للجيش، وقد أصبحت "سو تشي" نفسها نائبة في البرلمان عن دائرة "كاوهمو" الريفية قرب رانجون. بينما يتجلى الدعم الخارجي لـ"سو تشي" في حصولها على جوائز عالمية مرموقة، منها أرفع ميدالية يمنحها مجلس النواب الأميركي عام 1989، وجائزة سخاروف لحرية الفكر عام 1990، وجائزة جواهر لال نهرو من الحكومة الهندية عام 1991، وجائزة نوبل للسلام لعام 1991. وقد ظل وضعها تحت الإقامة الجبرية مثار قلق للكثير من الحكومات والمنظمات الغربية، فأشادت بشجاعتها وقوة إرادتها في مواجهة الحكام العسكريين، وطالبتهم بإنهاء اعتقالها وتمكينها من ممارسة دورها السياسي. ومنذ إنهاء الحظر المفروض عليها في نوفمبر 2010، مما سمح لها بالمشاركة في الانتخابات، تقاطر العديد من المسؤولين الأوروبيين والأميركيين على رانجون لمقابلتها، وكان آخرهم كاميرون، وقد سبقته بأسابيع قليلة وزيرة الخارجية الأميركية، في إشارة إلى وجود الرغبة لدى واشنطن ولندن في إخراج ميانمار من عزلتها الدولية، شريطة مضيها قدماً في الإصلاحات السياسية التي بدأتها العام الماضي مع قيام النظام العسكري الحاكم بحل نفسه، ونقل السلطة إلى "مدنيين" (جنرالات سابقين)، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وعلى رأسهم "سو تشي" التي استقبلها في الحادي من الشهر الجاري، الرئيس "ثين سين"، ذو التوجه الإصلاحي، بناءً على دعوة منه، وناقشا سبل إنجاز الانتقال الديمقراطي الموعود. وسواء بقيتْ في البرلمان أو تولت رئاسة الحكومة، فإن "سو تشي" تحمل على عاتقها تظلمات شعب برمته، وعليها إما أن تتحول إلى معارضة حقيقية وفعالة، أو تنخرط في جهاز الحكم وإدارة الشأن العام فتُقدِّمَ حلولاً لمشكلات الفقر، وأوضاع الفلاحين، وملف الضرائب، وتحفيز الاستثمار، وتطوير البنية التحتية... إلخ. فسينظر بدقة إلى أدائها وما ستقدمه في مسائل حاسمة مثل هذه، وليس بناءً على استقبالات ووعود يقدمها زوار أجانب لم يتحقق منها شيء في تجارب مشابهة... فلعلّها تكون "الوعد البورمي" كما ينتظره كثير من مواطنيها! محمد ولد المنى