هل الليبرالية قادمة إلى مصر، أم أن مصر مع هيمنة الإسلاميين بصدد الابتعاد عنها؟ على سطح الحياة السياسية والإعلامية، تبدو البلاد وكأنها في بحر من التيارات المتلاطمة والأفكار المتصارعة والجماعات المتنافسة. فهل ما نرى مقدمة لازدهار الديمقراطية أم للانفراد التدريجي بمستقبل مصر؟ الباحث الأميركي "ايريك تراغر" Trager طالب دكتوراه في جامعة بنسلفانيا، حيث يكتب أطروحته عن "أحزاب المعارضة المصرية". وقد نشرت مجلة "مدارات استراتيجية" اليمنية يوليو 2011، مقالاً مهماً عن مصر بعنوان "الإخوان الجموحون: فرص قاتمة لمصر الليبرالية"، يناقش فيه "تراغر" مصائر الديمقراطية المصرية في المرحلة القادمة. جماعة "الإخوان" المسلمين، يقول الباحث، "تقوم بالاستيلاء على الزخم السياسي، رغم أنها تجنبت الأضواء إلى حد كبير أثناء الثورة مع ما تتمتع به من مقدرة في تعبئة أتباعها". لم يستق الباحث معلوماته وتحليلاته من القراءة في الكتب والصحف والتقارير الاستراتيجية، بل يقول: "أُجريت مقابلات مع ما يقرب من ثلاثين شخصاً من الإخوان المسلمين الحاليين والسابقين". ولعل أهم ما في المقال تصويره لخطوات التقاط الأعضاء الجدد، ومتابعة تطور تعبئتهم وإسناد المسؤوليات الحزبية إليهم، ليتم الاعتماد عليهم في مراحل لاحقة. كل ذلك عبر المرور بمراحل العضوية. فلكي يصبح الشخص "أخاً" كامل الأهلية في الجماعة، "تستغرق عملية القبول بين خمس وثماني سنوات تتم خلالها مراقبة الأعضاء الطموحين عن كثب لمتابعة ولائهم للقضية، ومن ثم تلقينهم منهج الجماعة. ويفرز هذا النظام أعضاء ملتزمين بالتنظيم". ومن المراجع المهمة التي درست تنظيم "الإخوان" كتاب الباحث الأميركي ريتشارد ميتشل، المتوافر باللغة العربية في عدة ترجمات إحداها للدكتور محمود أبو السعود (1979). ويقول ميتشل إن أول قواعد تنظيم أعمال "الإخوان" ظهرت إلى الوجود حوالى 1930، وقد تم تعديلها فصدرت في سبتمبر 1945 تحت عنوان "قانون النظام الأساسي لهيئة الإخوان المسلمين العامة". وبعد ثلاث سنوات أوصى البنا بإجراء تعديلات "على ضوء تجارب السنين الماضية"، وصيغت هذه التعديلات في شكل اقتراحات بواسطة لجنة خاصة، وتم تصديقها بالإجماع في الهيئة التأسيسية عام 1948. وأخيراً، بعد أن عُيّن الهضيبي مرشداً، أقرّ مكتب الإرشاد اللائحة الداخلية العامة. وبموجب هذه القواعد تعطي الهيئة التأسيسية البيعة للمرشد الجديد، ويلحقها في ذلك سائر أعضاء الجماعة عن طريق رؤسائهم. أما يمين البيعة الذي نُشر مراراً، فهو: "أعاهد الله العلي العظيم على التمسك بدعوة الإخوان المسلمين والجهاد في سبيلها، والقيام بشرائط عضويتها، والثقة التامة بقيادتها، والسمع والطاعة في المنشط والمكره، وأقسم بالله العظيم على ذلك وأبايع عليه، والله على ما أقول وكيل". وكما يقول "تراغر"، يستكشف الأعضاء المحليون في كل جامعة الأعضاء الجدد. ويبدأ هؤلاء المتعهدون بتجنيد الأعضاء بالتقرب من الطلاب الذين يُظهرون إمارات قوية على التقوى. ويقول: "قال لي أخ سابق من جماعة الإخوان المسلمين يدعى عمرو مجدي، أنه من المفترض أن يقوم بعض أعضاء الإخوان بمقابلة ومصادقة الطلاب الجدد وإشراكهم في أنشطة عادية غير سياسية، مثل كرة القدم، ومساعدتهم في دروسهم. وقد تم استقطاب مجدي أثناء سنته الأولى بكلية الطب في جامعة القاهرة، لكنه ترك الجماعة في نهاية المطاف بسبب تحفظات أيديولوجية". ويستهدف "الإخوان" الأطفال من سن التاسعة، وقد قال "مصعب رجب" (23 عاماً) وهو ناشط قيادي شاب في "الإخوان"، ينتمي أبوه وأعمامه إلى الجماعة، "إن التنظيم يركز على أطفال أعضاء الإخوان بشكل خاص". وقد تعرض رجب للتجربة ودخل الحركة رسمياً وعمره 16 عاماً. ويبدأ مسار المرشح بدخوله درجة "مُحب"، وهي مرحلة تمتد بين ستة أشهر وأربع سنوات، حيث يدخل المحب إلى "أسرة" محلية، وهو اجتماع منتظم لمجموعة يتم فيها عن كثب مراقبة تقوى الأعضاء وأيديولوجيتهم. و"الأسرة" التي تتكون من أربعة إلى خمسة أشخاص، ويرأسها "نقيب"، هي الوحدة الأساسية لتراتبية "الإخوان". وتقضي الأسر الكثير من وقتها في مناقشة أنشطة الأعضاء وحياتهم الشخصية، مما يسمح بمراقبة مدى التزامهم بالمعايير الدينية الصارمة للتنظيم وبناء وحدة بين المجموعة. وبعد أن يؤكد زعيم الأسرة، من خلال الملاحظات أو الاختبارات الخطِّية، أن الـ"محب" يصلي بانتظام ويملك المعرفة الأساسية للنصوص الإسلامية الرئيسية، يصبح "المحب" بدرجة "مؤيد"، وهي مرحلة تستمر بين عام وثلاثة أعوام. و"المؤيد" عضو لا يحق له التصويت وإن كان عليه القيام ببعض الواجبات، مثل الوعظ والتدريس في المساجد وتحفيظ أجزاء من القرآن. وفي المرحلة التالية يصبح المتطلع بدرجة "منتسب"، في عملية تستغرق عاماً، وتعتبر أول خطوة نحو العضوية الكاملة. و"المنتسب"، كما يقول ناشط شاب في الجماعة، "هو عضو لكن اسمه يُكتب بقلم الرصاص"، ويمكن لـ"المنتسبين" العمل بإحدى تقسيمات "الإخوان" الرسمية، مثل تلك التي تدير برامج للمهنيين أو العمال أو طلاب الجامعة أو الأطفال. كما يدرس "المنتسبون" الأحاديث النبوية وتفسير القرآن، ويبدؤون في إعطاء جزء من مدخولهم للتنظيم. وحالما يُرضي "المنتسب" مشرفيه، تتم ترقيته إلى "منتظم"، وتستغرق هذه المرحلة عامين آخرين يجب خلالها على "المنتظم" أن يحفظ القرآن والأحاديث، ويمكنه الاضطلاع بدور قيادي على مستوى أدنى مثل تشكيل "أسرة" أو رئاسة فرع من عدة "أسر". لا يعد الأخ في هذه المرحلة قد بلغ المرحلة النهائية من رحلته التنظيمية. فقبل أن يستطيع التقدم إلى المستوى النهائي، أي "أخ" عامل في الجماعة، يتم فحص ولائه عن كثب. وينقل الباحث عن "رجب" قوله: "ربما يختبرونك كما لو كانوا أمن دولة ويعطونك معلومات خاطئة ليكشفوا ما إذا كنت ستنقلها أم لا". والترقي إلى المستوى النهائي يتطلب ثقة الرؤساء بأن المنتظم سيتبع توجيهات قيادة "الإخوان". وبعد أن يصبح بدرجة "أخ عامل"، يستطيع التصويت في جميع الانتخابات الداخلية، والمشاركة في كل الهيئات التابعة للجماعة، والمنافسة على موقع أعلى ضمن تراتبية التنظيم، كما يعهد إليه بـ"الدعوة" إلى إسلامية الحياة. ويعود تاريخ مبادئ نظام التجنيد هذا إلى تأسيس الجماعة عام 1928، لكن أحاديثي مع الأعضاء، يقول "تراغر"، أكدت لي أن العملية بدأت تتخذ طابعاً رسمياً فقط في أواخر السبعينيات عندما أصبحت أداة مهمة لإفشال محاولات أجهزة أمن الدولة اختراق التنظيم. وقد أخبرني أحد قادته في الإسكندرية، "علي عبدالفتاح"، بأنه يمكن لعميل أمن الدولة أن يصبح بدرجة محب، لكنه لن يترقى". والآن وقد انتهى عهد "مبارك" ونظامه، هل سيغير "الإخوان" هذه الدهاليز الحزبية والمراحل شبه الماسونية؟ حتى لو أدى سقوط "مبارك"، يقول الباحث الأميركي، إلى قيام بيئة سياسية أكثر ديمقراطية، فمن غير المرجح أن يهجر "الإخوان" هذا النظام التدقيقي الذي يراه قادة الجماعة جوهرياً لضمان إخلاص أعضائها. ويوجد "مكتب الإرشاد"، في أعلى التسلسل الهرمي للجماعة، ويتألف من 15 عضواً من قدامى الجماعة، يرأسهم المرشد العام. ويراقب كل عضو في مكتب الإرشاد حقيبة معينة، مثل التجنيد في الجامعات، أو حقيبة التعليم، أو غيرها من المجالات. ويتم انتخابهم عن طريق "مجلس الشورى" المؤلف من مائة "أخ". وعن ظروف ثورة 25 يناير يقول الباحث: لقد وضعت المظاهرات التي بدأت في 25 يناير 2011 "الإخوان المسلمين" في وضع حرج، حيث تجنبوا في البداية الانخراط المباشر في المظاهرات، لأن جهاز أمن الدولة هدد باعتقال مرشدهم إذا ما شاركوا. لكن في اليوم التالي استجاب مكتب الإرشاد لمطالب أعضائه الشبان، وفرض على الجماعة المشاركة في الاحتجاجات يوم 28 يناير الذي سمي "جمعة الغضب". ويقول الباحث إن التوترات الداخلية أدت بعدد من المحللين إلى القول بأن جماعة "الإخوان" سوف تنقسم إلى فصائل سياسية متعددة، متوقعين قيام قادة بارزين، مثل أبو الفتوح بسحب أعداد كبيرة من المناصرين بينما سيرفض النشطاء الشباب الساخطون أوامر مكتب الإرشاد حول كيفية التصويت. لكن تأكد لي من مناقشاتي مع اثني عشر مشاركاً في مؤتمر الشباب في مارس 2011 بأنه ليس من المرجح حدوث مثل هذا الانشقاق. هل "الإخوان" جماعة معتدلة؟ يقول الباحث: "ينبغي على واشنطن أن ترى الصعود الأخير لجماعة الإخوان المسلمين بعين القلق. فرغم إصرارهم على أن أهدافهم معتدلة، إلا أنه يبدو أنهم يُعرّفون هذه الكلمة بشكل مختلف عما يعرّفها الغرب. فالكلمة بالنسبة للإخوان -أي الاعتدال- تعني ببساطة، عدم استخدام العنف ونبذ الإرهاب وعدم العمل مع الجهاديين. لكنهم يعتبرون الصراعات في أفغانستان والبوسنة والشيشان والعراق ضمن قائمة المناطق التي يُسمح فيها بأعمال عنف". كما أن إدانة "الإخوان" للإرهاب ليست واضحة وقاطعة، فعندما قتلت القوات الخاصة للبحرية الأميركية بن لادن، وصف "الإخوان" ذلك العمل بغير العادل وأشاروا إلى زعيم القاعدة بـ"الشيخ الجليل". ويضيف الباحث: ثمة احتمالات "تشير إلى أن الإخوان في مصر ما بعد مبارك يأملون بتحسين العلاقات مع ألد أعداء الولايات المتحدة في المنطقة وهو إيران، وتشويه سمعة اتفاقات كامب ديفيد التي تعتبر واحدة من أعظم إنجازات الدبلوماسية الأميركية، كما أوضحوا نيتهم دعم المقاومة في غزة".