عاد الباحثون والمراقبون لمنطقتنا في زمن الثورات، إلى الحيرة والتردد بشأن الديمقراطيات ومستقبلها في بلدان العالم العربي. فعلى مدى عقدين وأكثر، انتشرت مقولتا الاستثناء العربي والاستثناء الإسلامي. أما الاستثناء العربي فهو ناجمٌ في هذه الرؤية السلبية، عن الطبيعة البدوية للعرب، وهي طبيعةٌ مُساواتيةٌ، لكنها انقساميةٌ ولاتعرف المؤسَّسات وما تطورت لديها مسائل وقضايا المجتمع المدني! أما الاستثناء الإسلامي، فمؤدَّاهُ أنّ الإسلام ينظر نظرةً شموليةً ولاهوتيةً إلى مسائل السلطة، إذ في تصور المسلمين أن مؤسِّس الدولة نبي. والسُنّة وإن لم يكونوا مثل الشيعة في مسائل عصمة الإمام، فقد تساووا معهم أخيراً في رؤى الحاكمية وتطبيق الشريعة والدولة الإسلامية. ولذا فعندما خرج الاستعمار من الديار العربية والإسلامية؛ كان من المناسب -من أجل الحداثة- إحلال العسكر محلَّه، لأن العسكريين فئةٌ اجتماعيةٌ حديثةٌ ومنظمة ومنضبطة. بيد أن العسكريين العرب والمسلمين (باستثناء الأتراك) خيبوا آمال شعوبهم وآمال العالم فيهم. فقد استأثروا وفسدوا وقتلوا وما انضبطوا، وما طوروا مؤسساتٍ تمثيليةٍ أو خدمية حقيقية، وها هم يقاتلون الناس ويزايدون في التنكيل بهم، من أجل الخلود في السلطة بعد خمسة عقودٍ ونيف من السيطرة دون محاسبة ولا مراقبة! إنما أيها العرب (والمسلمون) إلى أين من حكم العسكر، ما دام هناك استثناء عربي وآخرُ إسلامي؟! يقول فريد زكريا (محرر مجلة تايم) والذي كان قد ألّف كتاباً بهذا المعنى عام 2005، إنه وجد الحل أو أصل العقدة، وأصل العقدة ليس في العروبة أو الإسلام! بل في العسكر بالذات، ومنذ الفتح العربي حتى اليوم! فالفاتحون استولوا على البلاد، وأنشؤوا حكوماتٍ مركزيةً صارت نمطاً، وما لبثوا أن تحولوا إلى طبقة تستأثر بالشأنين السياسي (السلطنة) والاقتصادي (الإقطاع، وتبعية التجارة). ولذا فإن الحكم المدني لا يواجه الحكم الديني، بل يواجه الحكم العسكري الذي حكم ويحكم بدعاوى أيديولوجية، اشتراكية أو يمينية أو دينية أو علمانية، وهي جميعاً ألاعيب وأكاذيب. ويقول زكريا إنه لم يأت بهذه النظرية من عنديّاته، بل من مفكر أميركي اسمه أريك تشيني. وقد رأى تشيني في مقالةٍ له أنه بحث في اقتران العروبة بالاستبداد، فلاحظ أنّ ذلك غير صحيح، لوجود دول عربية ديمقراطية. وكذلك الأمر بالنسبة للإسلام، فهناك دولٌ إسلاميةٌ ديمقراطية. وحتّى الظروف الاقتصادية وشأن الفقر والغنى غير مؤكد أيضاً؛ فالسعودية غنية وسوريا فقيرة. لذا كان لابد من العودة إلى التاريخ، حيث نجد العامل المشترك المتمثل في نَمَط الحكم الذي ساد عصوراً متطاولة! والواقع أنّ هذه الترددات والأفكار المختلفة والمتصارعة بشأننا وكأنما نحن سرٌّ من الأسرار، لا تستحقُّ التقدير ولا التدبير. إذ إنّ الرؤية التاريخية لا صحّة فيها أو عليها. فالفاتحون العرب هم الذين أنشؤوا مؤسسة الخلافة، والمؤسسات الفرعية التابعة لها. وكان المثال الأعلى لهم مثال الشرعية القائمة على التساوي في الحقوق والواجبات. أمّا نمط الحكم الذي يتحدث عنه تشيني فقد ساد أيّامَ العسكريين الترك (السلاجقة والمماليك والعثمانيين)، وكانوا مساواتيين وذوي انضباطٍ عالٍ، ولو بقي لهم أثرٌ اليومَ، لكان ينبغي أن يظهر ويستمرّ في تركيا، حيث كان النمط الانكشاري العثماني هو السائد، لكنه مضى إلى غير رجعة. وهذا لا يعني أنّ العسكريين العرب نسيج وحدهم، فقد ظهر أمثالٌ لهم في أميركا اللاتينية وآسيا وإفريقيا. والعسكريون الحاكمون في بورما عادوا لتزوير الانتخابات! فقد أفاد العسكريون العرب من ضعف الحكومات السابقة عليهم، ومن انحيازهم في الحرب الباردة إلى الاتحاد السوفييتي، ومن صَونهم للمصالح الأميركية والغربية بمنطقتنا بعد نهاية الحرب الباردة. وقد انفرد صدّام من بينهم باعتقاد الاستقلالية فزال بعد غَزْوَتين! لذا فإنّ الإبقاء على العسكريين وأُسِرَهم المرفَّهة إنما كان بقرارٍ غربيٍّ بالنظر لكفاءتهم في صَون مصالح موكليهم، وتأمينهم للحدود مع إسرائيل بصلح ودون صُلْح! لقد بدأ العسكريون وحواشيهم يغادرون المشهد وإنْ بخسائر كبرى. وتظهر على السطح اليوم أحزاب الإسلام السياسي التي تريد العمل في الشأن العام. والمزعج في هذه الأحزاب أمران: إنها تملك رؤيةً وبرنامجاً ذا طبيعةٍ دينية، وإنها تريد الاستئثار بكل شيء، لأنها عارضت الأنظمة السابقة، ولأنها حصلت على الأغلبية في الانتخابات. وهذا نمطٌ من التفكير غير مفيدٍ بالنسبة للدين والدولة، وغير واعدٍ بالنسبة لهما. هو غير مفيد لأنه يمزج الشأن الديني بالشأن السياسي، فيحكِّم المطلق بالدنيوي المصلحي والنسْبي، ويحكم باسم المطلق فلا تمكن معارضتُهُ عند نفسِه على الأقلّ أو يكفر المعارض! ففي حالة الإسلاميين يكونُ الهجوم على المعارضين باسم الدين، وفيما يُشبه الولاءَ والبراءَ بين أتباع الفِرَق الدينية. وسيقول المعترضون إنّ هذا غير صحيح أو مُبالَغ فيه؛ إذ لم نر إسلامياً سياسياً يقول بالاستئثار أو بالحكم الإلهي! وهذا صحيح، إنما على الإسلاميين إن لم يكونوا ثيوقراطيين أن ينتقدوا أُطروحاتهم السابقة وإلاّ فستبقى قائمةً في عقائديات أتباعهم وتصرفاتهم، وهذا ما تبدو عليه بعض سلوكات "الإخوان المسلمين" بمصر اليوم. ثم إنّ هذا النمط غير واعدٍ بالنسبة للإسلام، لأن الدين يمثّل وحدة القيم، والوحدة الاجتماعية، فمجتمعات الدين والأخلاق هي مجتمعات ثقةٍ وودّ. ثم يأتي الإسلامي فيهجم على المناصب والحياة العامة باسم الدين، فإن لم يعارضه أحدٌ استولى على الشأن العام، وأقام حكماً ثيرقراطياً. وإن عارضه حزبٌ دينيٌّ آخر، انقسم الإسلام، لأنَّ كلاً منهما سيعتبر أنّ سياساته هي الدينُ الصحيح! ومع ذلك فمشكلتنا مع نظام الحكم أو مع الديمقراطية ليست فريدةً أو مستعصية. فقد قامت حركات التغيير فغيَّرت الصورة والأفكارَ عنا خلال عام. وهي حركاتٌ تقول بالتلاؤم مع مثال العالم المعاصر وتسعى إليه ولو بالدم. وقد خذل العالَم الثوار السوريين بسبب ارتباط النظام هناك بإيران وإسرائيل، ومع ذلك فالشعب السوري ما تخلى عن شعاري الحرية والكرامة! فإذا كان البحث عن علة الديكتاتورية في مقابل الخضوع مبرراً، فما مبرر التحدث عن مشكلاتٍ تاريخيةٍ أو دينيةٍ أو قوميةٍ تُواجهُ الديمقراطية، بعد قيام الثورات الديمقراطية العربية العظيمة؟! لنلاحظ أنّ هناك حِراكاً إسلامياً هائلاً يرسل إشاراتٍ مختلطة، وهو ليس ناهضاً فكرياً نهوضاً كبيراً، لكن قادته يبذلون جهداً ظاهراً للتلاؤم. وهذا الجهد بارزٌ بحدودٍ في مصر، ربما بسبب المماحكة والمزايدة مع السلفيين، وبارزٌ بشكلٍ أكبر مع "حركة النهضة" في تونس، وأكبر كثيراً مع "الإخوان" السوريين. وقد سمعتُ تصريحاتٍ مشابهة من حركاتٍ إسلاميةٍ بالمغرب والجزائر والأردن. وأياً يكن الأمر؛ فالإسلاميون يحاولون طمأنتنا تارةً بالقول إنهم مثل الأحزاب الديمقراطية المسيحية بأوروبا الغربية، وطوراً بالقول إنّ الإسلام السُنّي مختلفٌ عن الإسلام الشيعي لجهة أنه لا يفرض نظاماً سياسياً معيناً! أما الذين لا يُظهرون أيَّ تلاؤمٍ مع الظروف الجديدة؛ فإنهم العسكريون العرب الحاكمون، وهم لا يخشَون أحداً ولا شيئاً من وراء الإصرار على قتل الناس، وعلى تخريب البلدان، وعلى تزوير الانتخابات حتى بعد قيـام الثورات! لذلك؛ فالمسألة ليست تاريخية ولا دينية أو اقتصادية؛ بل إنها أنظمةٌ تجمدت وتأخرت الثورة عليها بسبب الحروب في المنطقة. وعندما توقف أوباما قليلاً عن استخدام العصا الغليظة، انفجر الجمهور على الحكام العسكريين ولايزال. وبذلك تبقى تحدياتٌ أمام الديمقراطية، وهي تتمثل في الاستقطاب الإقليمي والدولي، ووقوف إيران وإسرائيل ضد الثورات، وطموح الإسلاميين للسيطرة باسم الدين. بيد أن أخطر التحديات على الديمقراطيات الجديدة تبقى متمثّلةً في النُخب العسكرية الفاسدة!