ليس هناك في صفوف اليسار الأميركي من يعرف عن اليمين المحافظ أكثر من "توماس فرانك"، كاتب العمود في عدد من كبريات الصحف الأميركية الشهيرة، ومؤلف العديد من الكتب. وفي كتابه الجديد الذي نعرضه هنا، "رثاء المليارديرات... الاحتيال في الأزمنة الصعبة والعودة غير المحتملة لليمين الأميركي"، يشرح كيف أنه بعد أن اعتقد كثيرون في الولايات المتحدة، عقب سنوات كلينتون، أن التيار اليميني في الولايات المتحدة فقد زحمه، عاد ذلك التيار خلال سنوات بوش لتسخير كامل الطاقات في الدفاع عن الأسواق الحرة، وفي الدعوة لاتباع الرأسمالية في أكثر نسخها توحشاً، وتبني الحكومة في أقل صورها عدم كفاءة. وكان من المعتقد بعد الضربات التي تعرض لها اليمين المحافظ أثناء سنوات بوش، وكان آخرها الأزمة المالية التي ضربت أميركا، أن يدخل ذلك التيار في حالة من الأفول السياسي والثقافي، إلا أن الجميع فوجئوا بانبعاثه مرة ثانية من بين رماد الكارثة، ليس بحثاً عن طريق ثالث وإنما على شكل حركة متطرفة من الناشطين المتعصبين المعارضين لنظام الحكومة الكبيرة، هي حركة "حزب الشاي". فقد كان من الطبيعي قبل الأزمة أن يسمع المرء مدير مؤسسة أو شركة كبيرة وهو يقول مثلاً "إن المؤسسات هي الشعب"، لأن مثل تلك الادعاءات الزائفة كانت تتيح لهم تحقيق أرباح طائلة والسيطرة على مزيد من مقاليد القوة. غير أن الشيء الذي يدعو للدهشة أن يسمع المرء نفس الدعاوى في أتون الأزمة، ليس من مديري الشركات الكبرى، وإنما من الناخبين العاديين. بل الأكثر مدعاة للدهشة أن الأميركيين المنتمين للطبقة الوسطى والطبقة العاملة انخرطوا غالباً في الدفاع عن الشركات المتعددة الجنسيات التي أشعلت شرارة الأزمة، ثم كانت بعد ذلك أكثر من استفاد من حزم الإنقاذ المالي. ليس ذلك فقط، بل أيضاً كان الأميركيون الذين دُمرت حياتهم من قبل البنوك والمصالح المالية الكبرى، يتجمعون للمطالبة "بتحرير تلك البنوك والمصالح من الروتين والبيروقراطية والقيود، والمراقبة القانونية"! كيف حدث ذلك؟ بالنسبة لفرانك كان ذلك بمثابة "أخطر حالة من التشوش الفكري يصاب بها الشعب الأميركي"، حيث انقسم الأميركيون إلى مجموعتين متمايزتين: الناس العاديون، والمثقفون النخبويون. وفي إطار هذا المنطق الثنائي كان كل شخص يحاول أن يكسب دولاراً شريفاً متهماً بأنه مناوئ لواشنطن الكبيرة والشريرة ومؤسساتها النخبوية والعاملين فيها والمستفيدين منها مثل المديرين وكبار الجنرالات وبعض حكام الولايات الفاسدين. ولا يتردد المؤلف في تسمية هذا الانتصار لـ"وول ستريت" والمشروعات الكبيرة بـ" الغش". وهو يلقي باللوم على أوباما لأنه حارب نفوذ الاثنين أقل كثيراً مما يجب وساوم أكثر مما ينبغي. والحقيقة أن المطلوب في ذلك الوقت لم يكن "سياسة صحيحة" فحسب وإنما هي إطار أيديولوجي يمكن من خلاله الدفاع عن تلك السياسة. وينهي المؤلف كتابه بتوجيه اللوم للديمقراطيين على تخاذلهم أمام اليمين والسماح بصعود حركاته الشعبوية المتطرفة، ويقول إنه بعد 30 عاماً من "الريجانية" لا يستطيع أحد من الليبراليين أن يقول اليوم إنه قادر على اجتراح تحول معرفي في يوم واحد، حتى إذا ما كان ذلك اليوم هو الذي سقط فيه بنك الاستثمار الأميركي الشهير "ليمان براذر". لكنه يعود فيقول إن هناك بعض الإرهاصات التي تشي بأن هذا الوضع في طريقه للتحلحل. فحركة مثل "احتلوا وول ستريت" وغيرها من التجمعات الاحتجاجية، تقوم حالياً بتغيير شروط الخطاب الاقتصادي الأميركي على نحو أكثر عمقاً من أي هلوسة يمينية كتلك التي تنتجها حركة "حزب الشاي". ومن تلك الإشارات المبشرة لليسار أيضاً أن شخصيات مثل "جلين بيك" الإعلامي المشهور ذو التوجهات اليمينية المتطرفة، و"سارة بالين" حاكمة ولاية ألاسكا السابقة، قد راحا يتواريان في النسيان بسرعة غير متوقعة. وفي سنة الانتخابات الحالية فإن الميزة الأساسية لهذا الكتاب هي كونه يصف كيف وصلت أميركا إلى هذه المرحلة المعتمة في مسيرة نظاميها السياسي والاقتصادي. لكنه لا يصف حالة الأمة الأميركية الآن، ولعله لم يكن ينوي ذلك منذ البداية. سعيد كامل الكتاب: رثاء المليارديرات... الاحتيال في الأزمنة الصعبة والعودة غير المحتملة لليمين الأميركي المؤلف: توماس فرانك الناشر: ميتروبوليتان بوكس تاريخ النشر: 2012