حذر تقرير التنمية الصادر عن الأمم المتحدة لعام 2011 من أنه "ما لم يتم التصدي بشكل ملائم للتحديات الاقتصادية، وخاصة قضية العدالة الاجتماعية، فإن التقدم العربي نحو التحول الديمقراطي سيواجه خطر الإحباط". وكان تقرير عام 2009 قد أبرز ستة تحديات رئيسية ومتشابكة تواجهها دول المنطقة العربية وتشمل: إصلاح المؤسسات، وتوفير فرص عمل، وتعزيز وتمويل عمليات النمو لصالح الفقراء، وإصلاح نظم التعليم، وتنويع مصادر النمو الاقتصادي، وزيادة الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي في ظل القيود البيئية القائمة. وشدد التقرير على أن التعامل مع هذه التحديات يحتاج إلى نموذج شامل يعتمد نهج التنمية البشرية القائم على الحريات كأساس لتحقيق التنمية. (انتهى). منذ أكثر من أربعين عاماً ونحن نسمع في الخطب الرنانة وفي وسائل الإعلام أن الإنسان هو "أساس" التنمية، وبدونه لن تكون هنالك تنمية. وفي البلدان العربية تم تدبيج مئات الآلاف من الصحائف حول التنمية، وتم عقد آلاف الندوات والمؤتمرات حول التنمية البشرية والاقتصادية، ولكن للأسف، ها هو تقرير التنمية -الذي لا يساورنا أيُ شك في صدقيته- يضعنا في المربع الأول! أي أن كل تلك البرامج والخطط والاجتماعات لم يتحقق المأمول منها. ماذا نفعل بعد إهدار كل تلك الأموال والعصف الفكري والوقت في مجال تحقيق التنمية؟ وما زالت بعض البلدان العربية تحت سقف الفقر، ولربما اقترب بعضها من مقياس الدولة الفاشلة! كما أن بعض الدول الأخرى المتلفعة برداء الديمقراطية الكاذب قد سقط في أول امتحان ديمقراطي عندما هبّت رياح الثورات العربية. أما بعض الدول الأخرى فلها أسلوبها وآلياتها في النظر إلى التنمية، ولكن معظمها لم يقترب مما يدعو إليه التقرير الأممي وهو الاستثمار في المواطنين. وحقيقة الأمر أن الاستثمار في المواطنين -كما يدعو له التقرير- يفسرُه كل بلد حسب توجهاته وحسب ظروفه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. فبلد يعاني الانشطار أو التمزق الإثني لا يمكن أن يُعير تنمية الإنسان أي اهتمام! وبلد يعاني خطر هجوم من الجيران لا يمكن أن يؤرقه ملفٌ غير الملف العسكري وصفقات الأسلحة واستمالة الحلفاء! وبلد يتمتع بسلطة العنف والسيطرة الكاملة على مقدرات البلاد -اجتماعيّاً وماليّاً وفكريّاً- لا يمكن أن يأبه بالاستثمار في الإنسان! وبلد ليست لديه أية خطط، ويعتمد على التسوّل على الدول الغنية كل موسم، لا يمكن أن يهتم بتنمية الإنسان، وخصوصاً إن كان في حرب مع مواطنيه أو جيرانه. وللأسف، لا يتم التحقق أين تذهب تلك المساعدات! وهل للإنسان العادي نصيب منها؟! إن العالم العربي يفتقد أهم مرتكزات التنمية وهي الحريات! فطالما أن الأفواهَ مُكممة والمجالس -بأشكالها- تجميلية (Cosmetic)، والتعويل على مخرجات دولة الرفاه وتداعياتها المعروفة: "أنا وابن عمي على الغريب" فلا يمكن أن يقترب هذا العالم من الرؤية الناجحة التي تؤهله لوضع خطط للتنمية اعتماداً على الإنسان. وكيف يمكن الاعتماد على إنسان مُكبل أصلاً؟! ولا تقل العدالة الاجتماعية أهمية عن الحريات. فافتقاد هذه العدالة -في العديد من دول العالم العربي- جعل الظالم يزدادُ ظلماً والمظلوم يزدادُ مظلومية. وجعل الفقير يزداد فقراً والغني يزدادُ غنى! بل إن عبء الانفتاح الاقتصادي يقع على كاهل الفقير قبل الغني من ناحية ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة. والعدالة الاجتماعية -وفق مبادئ الشفافية التي يعلنون عنها- يجب أن تكشف حالات التزوير، وسوءِ استخدام المال العام وتوزيعه، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، والركون إلى العصبية في كل مناحي الحياة. وفي بلدان عديدة يقومون بإصدار تشريعات ضد العدالة الاجتماعية ويحاكمون الناس بها دون أخذ رأيهم فيها! أي أنها أحياناً تتعارض مع الدساتير المعمول بها. ومن هنا فإن مثل تلك الأنظمة تقترب من الأنظمة "الديكتاتورية المستترة" التي تربّي الإنسان على عدم المساءلة حتى لو تم الاجتراء على حقوقه. إن استخدام قوة السلطة لا مبدأ الحوار من أسباب غياب العدالة الاجتماعية. فخوف الإنسان على قوتهِ ومستقبل أسرته يقف دائماً فوق تفكيره ويستولي على تصرفاته وأقواله، حتى وإن لم يكن مقتنعاً بواقعه الاجتماعي أو صيرورته كإنسان. وإذا ما أضفنا حالة التعليم والاعتماد على مصدر وحيد للنمو الاقتصادي، وفقدان الأمن الغذائي وسوء الإدارة -التي تفرضها حتميات اجتماعية معينة- والإقصاء، إلى جانب فقدان العدالة الاجتماعية والحريات، فإننا نتيقن من أن هذا العالم لن تقوم له قائمة، وأن أية أمة ستأتي سوف "تلعن أختها". وهذا مُطبّق اليوم في بعض السياسات، فأي نظام يأتي يقوم بالتشهير بالنظام السابق، ويُفند سياساته الفاشلة، ويحقرُ إنجازاته، وبعد أن يتمكن من الأمر يقوم بنفس ما قام به النظام السابق. أنا لا أعتقد أن الثورات العربية ستأتي بـ"جنات عدنٍ" إلى البلدان التي نُكبت بأنظمة استبدادية، لأن التركة كبيرة، والمتحلقين حول "الكعكة" تهمهم انتماءاتهم الطبقية والطائفية والأيديولوجية، ولن يتفقوا على وطن واحد، لأن الثقافة السائدة قبل الثورات لم تعلمهم الانحناء للوطن بل للحكم. ومن هنا يتوجب على المهتمين بالتنمية البشرية أن يحرروا الإنسان أولاً من "عُقد" الماضي ومن تضخم "الأنا" بعد الثورات العربية، لأن واقع تلك البلدان مؤلم، ولكم في العراق المثال الأوضح، كما هو الحال في اليمن، وفي ليبيا التي نتخوف من تحوّلها إلى "دولة الطوائف" في الأندلس. إن ما حصدناه من أقوال العرب إن الإنسان هو أغلى الثروات كان كلاماً للاستهلاك الظرفي اللحظي، ولو كان هذا الأمر صحيحاً لما احتجنا إلى "دور الخبرة الأجنبية" وشرعنا لها الصدور والخزائن. علينا أن نكون واقعيين في تصوراتنا، وأن نقيس التجارب السابقة! هل نجحنا في خلق هاماتٍ بشرية يقف لها العالم احتراماً؟ هذا هو السؤال المحوري.