هل نبالغ لو قررنا أننا منذ اندلاع الثورات التونسية والمصرية والليبية نعيش عصر الثورة العربية الشاملة؟ ونقصد بالثورة العربية الشاملة الانتفاضات الجماهيرية التي وقعت في "تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا"، ووجهت ضرباتها الساحقة ضد النظم الاستبدادية في كل تلك البلاد، التي مارست قمع الجماهير عقوداً طويلة من السنين. ولو تأملنا التاريخ المعاصر لبلاد الثورات العربية لأدركنا أنها عانت معاناة شديدة من ظاهرة التدهور السياسي الذي أصبح مَعلماً من معالمها البارزة، حتى أنه يمكن القول إن كل تلك البلاد التي خضعت لنظمها السياسية المستبدة يكاد ينطبق عليها وصف "الدولة الفاشلة" الذي تنعت به دول متعددة في قارات مختلفة، وفق معايير كمية وكيفية تكشف عن تدني أحوال شعوبها من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ولعل أبرز علامات التدهور في هذه البلاد جميعاً هو الاعتداء المنهجي على الحريات السياسية وقمع الجماهير، وليس ذلك فقط بل خرق حقوق الإنسان من خلال تقييد حركة الأحزاب السياسية المعارضة، واعتقال الخصوم السياسيين بغير سند من القانون، بل واستخدام التعذيب ضدهم، وفي بعض الأحوال المتطرفة شن حملات عسكرية ضد بعض الطوائف المعارضة أشبه ما تكون بحرب إبادة تحظرها المعاهدات الدولية، كما يحدث الآن من قبل الطبقة السياسية الحاكمة السورية العلوية ضد الطائفة السنية. أما التدهور الاقتصادي فتكشف عنه السياسات الاقتصادية المنحرفة التي تجعل ثمار التنمية محتكرة للقلة من أهل السلطة الفاسدين وخلفائهم من رجال الأعمال، مما يؤدي إلى الإفقار المستمر للطبقات المتوسطة والفقيرة. وليس أقل خطورة من ذلك التدهور الثقافي الذي يكشف عنه الارتفاع المهول في معدلات الأمية (تصل إلى 40 بالمئة من مجموع الشعب العربي) وتدني الوعي الاجتماعي نتيجة نشر الوعي الزائف عن طريق أجهزة الدولة الإيديولوجية من جانب التي تسيطر عليها الحكومة، ونتيجة للدعوات الدينية المتشددة والمتطرفة التي تنشرها بتشجيع من السلطات الجماعات الإسلامية على اختلاف أنماطها وصورها. ولعل السؤال الذي يطرح نفسه بشدة: هل ما وقع في تونس ومصر وليبيا كان مجرد انتفاضات جماهيرية نجحت بحكم زحف الجماهير الهادرة على قلاع السلطة المنيعة وإسقاطها، أم هي ثورات مكتملة بكل معاني الكلمة؟ ونعني بالثورات المكتملة امتلاكها لرؤية استراتيجية تتعلق بالتحول الديمقراطي، بمعنى الانتقال من الشمولية والسلطوية إلى الليبرالية، بأن تقوم به التشكيلات الثورية التي قادت الحركة الجماهيرية؟ الإجابة على هذا السؤال ليست سهلة ولا ميسورة. وذلك لأن الأحداث التي وقعت في البلاد الثلاثة في اليوم التالي للثورة، تشير في الواقع إلى أنها ليست ثورات مكتملة. ولو نظرنا إلى تونس وهي تكاد تكون أبرز النماذج الثورية حتى الآن التي نجحت في تصميم المرحلة الانتقالية بصورة منهجية من خلال انتخاب مجلس تأسيسي لوضع الدستور وتنظيم الانتخابات، لوجدنا أن الزحف السلفي على الدولة يهدف في الواقع إلى تأسيس دولة دينية وفق رؤية مغلقة ومتشددة، تريد أن تمارس استراتيجية التحريم بالنسبة للتفكير والإبداع، بل وفيما يتعلق بالسلوك الاجتماعي ذاته. مما يشير إلى ردة في مجال حريات التفكير والتعبير والإبداع بالإضافة إلى محاولات بائسة لاعتقال حركة المرأة التونسية التي سبق لها أن تحررت في ظل النظام القديم. في حين أن حزب "النهضة" ورئيسه راشد الغنوشي برؤيته الإسلامية المنفتحة، لا يريد إغلاق الدائرة منذ البداية وتجميد الدستور التونسي الجديد في قفص حديدي يقوم على أساس اجتهادات دينية سلفية متشددة، من شأنها أن تقيد حركة المجتمع التونسي بعد الثورة، وليس ذلك فقط بل إن من شأنها في الواقع تعويق عملية التحول الديمقراطي برمتها. ومن هنا تبدو المفارقة في كون المجتمع التونسي الذي طمح من خلال الثورة إلى تجاوز حدود السلطوية الجامدة، والعبور الآمن إلى آفاق الديمقراطية الرحبة، يشهد الآن في الواقع حالة تدهور سياسي قد يؤدي به إلى التراجع عن مكتسبات تم تحقيقها في ظل النظام السلطوي القديم، الذي كان يرأسه الحبيب بورقيبة وورثه عنه بن علي. ويبدو الموقف أخطر في مصر بعد الثورة. وذلك لأنه في اليوم التالي للثورة تشرذمت الائتلافات الثورية التي أشعلت لهيب الثورة ودفعت الملايين من أبناء الشعب المصري إلى الالتحام بصفوفها، والضغط العنيف لإسقاط النظام وإجبار الرئيس السابق على التنحي. وقد أدى هذا الوضع الاستثنائي في تاريخ الثورات إلى أن من أشعلوا الثورة لم يتح لهم أن يحكموا مباشرة، مما أدى في النهاية بعد مسيرة متعثرة غاية التعثر بقيادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي تولي إدارة البلاد بعد تنحي الرئيس السابق، إلى أن تقفز على قطار الثورة جحافل "الإخوان المسلمين" لأنهم أكثر تنظيماً، ومعهم حلفاؤهم من أنصار التيارات السلفية الذين لم يسبق لهم أن عملوا في السياسة من قبل. وقد استطاع هذا الحلف الديني السياسي أن يغزو النظام السياسي المصري بمجمله، فقد سيطرت جماعة "الإخوان المسلمين" والسلفيون على مجلسي الشعب والشورى، وعلى اللجنة التأسيسية لوضع الدستور، مما دفع بعشرات الأعضاء إلى الانسحاب منها والاستقالة احتجاجاً على نزعة الاستئثار والهيمنة على كل المواقع. وبدأ التخطيط لإسقاط حكومة "الجنزوري"، وتشكيل حكومة "إخوانية" خالصة. وأخيراً اكتملت حلقات الهيمنة المطلقة بترشيح الجماعة لـ"خيرت الشاطر" في انتخابات الرئاسة، وحين شعرت بأن هناك عقبات قانونية قد تقف في طريقه، رشحت كمرشح احتياطي الدكتور "المرسي" رئيس حزب "الحرية والعدالة" وأبقت "الشاطر" كمرشح مستقل! أما "الجماعة الإسلامية" وخوفاً من فقدان المرشحين الإسلاميين لفرص فوزهم بالرئاسة، رشحت مؤخراً الداعية الإسلامي "صفوت حجازي" للرئاسة. ومعنى ذلك كله أن مصر مقدمة -على عكس ما توقع المراقبون- ليس على عهد من التطور الديمقراطي والتقدم في مجال الممارسة الليبرالية، ولكن على عصر سيسوده التخلف السياسي في أبشع صوره، حيث يختلط الدين بالسياسة اختلاطاً شديداً، بحيث يمكن وصف المعارض لهذه الجماعات الدينية بأنه "كافر" و"مرتد" عن شريعة الإسلام. وتصبح المفارقة التاريخية الكبرى أن ثورة 25 يناير -نتيجة سلبية الأداء الثوري بل وانحرافه، وتعثر المجلس الأعلى للقوات المسلحة في إدارة المرحلة الانتقالية، قد فتحت الباب واسعاً وعريضاً ليس لإعادة إنتاج النظام السلطوي القديم فقط، بل لتأسيس ديكتاتورية سياسية دينية لم يسبق للمجتمع المصري أن شاهدها منذ صياغة دستور عام 1923 حتى الآن! أما لو نظرنا إلى ليبيا -أخيراً- لوجدنا ظواهر سياسية تنبئ ببداية التدهور السياسي في ظل الثورة، الذي يتمثل في انفصال هاجس إقليم "برقة"، وفي الاقتتال الدموي بين فصائل الثوار، وحتى الصراعات بين القبائل. هل معنى ذلك أن حلم الثورات العربية كان ومضة خاطفة برقت في سماء بلادنا وسرعان ما اختفت، وحل محلها كابوس التدهور السياسي الذي ليست له حدود؟ سؤال نترك إجابته للمستقبل القريب!