ساهم تصاعد مستويات ثاني أكسيد الكربون في الأجواء إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض التي وضعت بدورها حداً للعصر الجليدي على كوكب الأرض، كانت تلك هي الخلاصة التي خرج بها العلماء من دراستهم الأخيرة التي حللت العوامل التي أسدلت الستار على آخر عصر جليدي تشهده الأرض والذي انتهى منذ أكثر من 20 ألف سنة. وتتباين هذه النتائج التي توصل إليها العلماء مع الدراسات السابقة التي كانت تذهب إلى أن ارتفاع درجة حرارة الأرض كان سابقاً على تزايد نسبة ثاني أكسيد الكربون في الأرض، وهي الفكرة التي دفعت بعض المتشككين في ظاهرة الاحتباس الحراري إلى القول بأنه إذا كانت درجات الحرارة سابقة على ارتفاع أكسيد الكربون في الأجواء فذلك يعني، من وجهة نظرهم، أنه لا علاقة له بالاحتباس الحراري. وسبب الاختلاف في نتائج الدراسات بين الأمس واليوم أن تلك التي كان يقوم بها العلماء في الماضي ركزت فقط على أجزاء يتم استخراجها من الكتل الجليدية في القارة القطبية الجنوبية، فيما التجرية الحالية أضافت معطيات جديدة من خلال قياس حرارة الجليد في 80 موقعاً آخر حول العالم، وأظهرت نتائج الدراسة الأخيرة أنه في الوقت الذي قادت فيه درجات الحرارة المرتفعة إلى زيادة نسبة ثاني أوكسيد الكربون في المناطق المحيطة بالقارة القطبية الجنوبية، تبقى الصورة العامة في أنحاء العالم الأخرى مختلفة، بحيث قاد الارتفاع الملحوظ في نسب الغاز في الأجواء إلى زيادة مطردة في درجة حرارة الأرض، وعن هذه النتائج يقول "ريتشارد آلي"، العالم الجيولوجي المتخصص في دراسة الكتل الجليدية بجامعة "بين" الأميركية "تمثل الدراسة خرقاً علمياً حقيقياً". وأضاف العالم أن الدراسة هي أحدث مؤشر على فهم أعمق يكتسبه الباحثون للآثار المحتملة لثاني أوكسيد الكربون على المناخ، ويشير "جيرمي شاكون" المشارك في الدراسة أن ما تم التوصل إليه من نتائج يدق ناقوس الخطر بشأن التحولات المناخية التي سيشهدها العالم في المستقبل، فقد لاحظ أنه على مدار العشرة آلاف سنة التي أعقبت نهاية العصر الجليدي وإلى بداية عصرنا الحالي ارتفعت كثافة ثاني أوكسيد الكربون في الجو بحوالي 40 في المئة، بمعنى أنها زادت من 180 جزئية في المليون إلى 260 جزئية، أما خلال المائة عام الأخير فقد تضاعف الرقم أكثر من 292 جزئية في المليون إلى 392 جزئية، وما زالت نسبة الارتفاع مستمرة. وتعليقاً على هذه الأرقام، يقول "شاكون":"بالتأكيد هذه النسبة ليست بسيطة، فارتفاع ثاني أكسيد الكربون مع نهاية العصر الجليدي كان له دور كبير في التغيرات المناخية التي شهدها كوكب الأرض"، لكن هذا الارتفاع في كثافة ثاني أوكسيد الكربون لا يعني، حسب العلماء، أن تداعياتها ستكون ملموسة خلال القرن الحالي، لأن الأمر يستغرق مدة أطول كي تظهر تلك التداعيات على نحو واضح وتنعكس على المناخ العالمي، فحالياً تقوم المحيطات باعتراض هذا الاحترار الجاري في الأرض وتمتص الكثير من تداعياته، كما تعمل المحيطات أيضاً على التخفيف من حدة ثاني أوكسيد الكربون الذي يطلقه البشر، هذا بالإضافة إلى ما يتوافر عليه كوكب الأرض من كتل جليدية كبرى سواء في القارة القطبية الجنوبية، أو في جرينلاند التي تُبقي درجة حرارة الأرض في مستويات معقولة، ويؤكد "شاكون" أن التداعيات الملموسة لن تظهر إلا بعد قرون. وقد اعتمد الفريق العالمي الذي أجرى الدراسة بقيادة "شاكون" و"بيتر كلارك" من جامعة "أوريجون" الأميركية على التركيبة الكيميائية لعينات من الهواء أُخذت من فقاعات ظلت حبيسة داخل بعض الكتل الجليدية التي أجريت عليها الدراسة، لكن العلماء هذه المرة وسعوا الدراسة لتمتد إلى مواقع أخرى حول العالم تمتد من القطب الشمالي وحتى القطب الجنوبي. واستند العلماء للتعرف على درجات حرارة الأرض في العصور المختلفة على بقايا أحفورية في أعماق البحار ورحيق النباتات الحبيس في بعض البحيرات، وتظهر النتائج أن العامل المحفز الذي أطلق ارتفاع درجة حرارة الأرض وانتهاء العصر الجليدي هو التغير الذي طرأ على زاوية دوران الأرض وميل محورها، وهو ما أدى إلى تعرض أجزائها الشمالية إلى مزيد من أشعة الشمس، فبدأت عملية ذوبان الغطاء الجليدي الكثيف الذي كان يغطي أجزاء واسعة من كوكب الأرض لتتدفق بعد ذلك المياه في المحيطات، لا سيما في شمال الأطلسي، مغيرة الآليات المتحكمة في المناخ العالمي. وفي غضون بضعة مئات من السنوات كان مستوى البحر قد ارتفع بين خمسة إلى عشرة أمتار، وبعد انحسار الجليد عن الجزء الشمالي من الكرة الأرضية انكشفت مساحات أوسع من المياه للتفاعلات الغازية مع الجو. هذا الاحترار في الأرض أيضاً نتج عنه تغير في نمط هبوب الرياح رفعت وتيرة صعود ثاني أوكسيد الكربون من أعماق المحيطات إلى السطح ولاحقاً انبعاثه في الهواء. وفيما ينبعث ثاني أوكسيد الكربون اليوم من مخزونات الفحم والنفط والغاز الطبيعي الموجودة تحت سطح الأرض، فإنها في الماضي السحيق عند نهاية العصر الجليدي كانت تأتي من أعماق المحيطات والبحار، وجدير بالذكر أن المحاولات التي يبذلها العلماء لفهم كيفية زوال العصر الجليدي تساهم في تعميق فهمنا لتأثير ثاني أوكسيد الكربون على المناخ. ------- بيت سبوتس كاتب أميركي متخصص في الشؤون العلمية ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"