لطالما كانت الولايات المتحدة طيلة القرن التاسع عشر، وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى تعتمد سياسة التجاهل إزاء ما كان يسمى "المسألة الشرقية" أي ضعف الدولة العثمانية، التي كانت تسمى في أدبيات السياسة الغربية "الرجل المريض"، إلا أن واشنطن أصبحت تهتم بالمنطقة العربية والخليج خاصةً، قبل أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها. ولعل اللقاء التاريخي بين الرئيس الأميركي روزفلت والملك عبد العزيز كان تعبيراً عن الاهتمام الأميركي بمنطقة الخليج. حقيقةً، أمن الخليج العربي مر بمراحل تاريخية لعبت فيها الولايات المتحدة دوراً محورياً في الشؤون الأمنية والسياسية والاقتصادية، بسبب الموارد النفطية، وقيام إسرائيل وقيام دول كانت جزءاً من التركة العثمانية وأخرى خط مساحتها الاستعمار البريطاني، ما أوجد الصراعات العربية- العربية (بين الأنظمة الملكية والجمهورية) الذي نتج عنه هوس البقاء كدول خرجت وليدة لحظة تاريخية مهمة، فبدأت علاقات دولية ذات طابع تعاوني وصراعي، فيه هاجس الأمن والبقاء يحتل رأس الأجندة والإستراتيجيات. فهذه الأحداث جعلت العلاقات الدولية في منطقة الشرق الأوسط في زخم، وقد تعاظم الدور الأميركي مع أفول شمس الإمبراطورية البريطانية في الخليج العربي، وبدأت الولايات المتحدة عبر حليفها شاه إيران في ذاك الزمان، تحقيق شيء كبير من استقرار وأمن الخليج العربي. ولعل حرب أكتوبر 1973 وما ترتب عليها من أزمةٍ في الطاقة ثم اندلاع الثورة الإيرانية، فالحرب العراقية- الإيرانية، قد هزت أهدافاً استراتيجية لواشنطن في المنطقة، لكن حرب تحرير الكويت أعادت الولايات المتحدة إلى الخليج العربي في علاقة قوية طالت رضى شريحة كبيرة من شعوب الخليج عن الدور الأميركي في المنطقة، وأصبح لهذا الدور علاقة مباشرة بأمن الخليج. أحداثنا المعاصرة تأتي لتكمل حلقة مهمة في علاقة الخليج بواشنطن، وعلى مسلمة في العلاقات الدولية تتجه الدول للحفاظ على سلامة أراضيها وتحقيق الأمن والاستقرار إلى التحالف مع دول قوية تربطها مصالح مشتركة ومتبادلة. وهذه الحلقة هي مشروع الدرع الصاروخية الأميركي الخليجي، والهادف إلى ردع وتحجيم إيران التي لم تقدم شيئاً يقضي على الهواجس الأمنية مع دول الخليج بدايةً من احتلال الجزر الإماراتية مروراً بمشكلة الجرف القاري مع الكويت (حقل غاز الدرة) انتهاءً بمشروع الطاقة النووية، والذي لم تقدم إيران ما يكفي للعالم لإثبات أنه ذو طابع سلمي، يضاف إلى ذلك أهمية وجود تعاون بين إيران ودول الخليج في ضوابط المسائل البيئية والأمنية المرتبط بالمفاعلات النووية، والتي لم تقدم إيران شيئاً يذكر في هذه المسأله بل على العكس جعلتها مسألة أمنية أخرى تضاف لسابقاتها. مشروع الدرع الصاروخية يعمل على نشر صواريخ مضادة للصواريخ الباليستية يمكنها حماية مناطق حيوية في الدول من هجمات الصواريخ الباليستية طويلة المدى، كما أن المشروع إذا تمَ له أبعاد ثلاثة إقليمية ودولية وعالمية سنعرضها ونحللها. المستوى الإقليمي: نقصد به شبكة العلاقات التعاونية والصراعية بين الدول التي تمثل إقليماً ما، وهنا إقليم الخليج العربي الذي يضم دول مجلس التعاون الست مع العراق وإيران، فهذا الإقليم يمر بحالة من عدم التوازن في القوى لصالح القوة الإيرانية، خصوصاً بعد انهيار العراق كقوة عربية خليجية. حقاً، حالة عدم التوازن في القوى الخليجية لصالح القوة الإيرانية تقود إلى خلق محفز كبير لدول المنطقة إلى تحقيق نوع من التوازن يقابل القوة الإيرانية، وذلك يكون عبر تطوير قواتها العسكرية وعلاقاتها الدولية والذي بدوره يمثل رادعاً أوتوماتكياً أو طبيعياً لإيران. مما لاشك فيه أن مشروع الدرع الصاروخية الأميركي في الخليج، سيخلق حالة ردع للقوة الإيرانية التي تطمح لبسط نفوذها العسكري والسياسي على أمن وسياسات دول المنطقة لتحقق بذلك مكاسب اقتصادية وسياسية على المستوى الدولي، أي أن إيران ترغب في تحقيق مصالحها الدولية الخاصة على حساب دول المنطقة، كأن تكون الدولة المتحكمة بأمن الخليج. بالإضافة إلى ذلك، المشروع يمثل مشاركة دول مجلس التعاون فعلياً وميدانياً مع واشنطن في تحقيق الأمن والاستقرار، ويقال إن هذا المشروع يعود إلى سنة تحرير الكويت، كما أن الولايات المتحدة كانت قد طرحت في إحدى دراساتها الأمنية المهمة جداً، جعل دول وأبناء المنطقة الخليجية هم من يحققون الأمن من خلال المشاركة والتدريب على الحرب الحديثة مع الولايات المتحدة، وهذه الفكرة تقوم على حث واشنطن دول المنطقة على تشكيل حلف عسكري حقيقي مع واشنطن وحلف الناتو مستقبلاً. المستوى الدولي: هذا المشروع سيجعل العلاقات الأميركية مع دول الخليج العربي علاقات اعتماد متبادل في الشؤون الأمنية والاقتصادية والسياسية والثقافية، والتي ستصبح عند هذا المستوى أكثر تعقيداً من ذي قبل. كما أن هناك ولادة لحالة ردع جديدة في العلاقات الدولية، تحققها دول من مجلس التعاون الخليجي بالتعاون مع واشنطن، كما هو الحال بين الردع الباكستاني للهند. حقيقةً، كثرة حالات الردع العسكري تهدد أمن الدول من جانب ولكن في جانب آخر تحقق نوعاً من الاستقرار، قد يدفع الدول مع مرور الزمن إلى إزالة حالات التوتر الأمني والسياسي والاقتصادي بين الأطراف المعنية بحالة الردع المتبادل، كما أنهُ قد يمنع ممارسة أي ضغوطات سياسية وعسكرية لمصالح إيران الخاصة. جدير بالذكر أن دول مجلس التعاون تتعاطى مع وضع المنطقة الراهن بصورة واقعية، كما يُسجل المشروع قدرة الولايات المتحدة على تغيير سياساتها الأمنية في الخليج، نحو مشاركة الدول المعنية. بهذا المشروع تندفع الولايات المتحدة نحو روسيا في أبعاد جيوبوليتيكية لهذا المشروع. المستوى العالمي: وعلى هذا المستوى، تتربع الدول العظمى والكبرى في علاقات تعاونية وصراعية وتنافسية، فالعلاقة الأميركية- الروسية تحتوي على نقاط خلاف كبيرة مثل توزيع المكاسب بين الدول العظمى والكبرى على المستوى العالمي، الذي تستطيع به هذه الدول تغيير درجات الاستقرار والأمن فيه. ولعل مشروع الدرع الصاروخية بالخليج يمثل تحدياً لبروز موسكو كإحدى القوى العالمية، التي تبحث عن القوة والنفوذ السوفييتيين. فهناك فكرة مشروع الدرع الصاروخية الأميركي في أوروبا، والتي تحاول واشنطن تسويقهُ بأنه محدود الفعالية، ويحمي أوروبا من الدول المارقة، وأن هذا النظام لا يستطيع صد هجوم فعال من روسيا أو الصين. لكن المشروع محاط بشكوك عميقة، لأن هذه الشبكة قد تتطور مستقبلاً لتضم دول حلف الأطلسي نفسها، وبالتالي يصبح المشروع موجه إلى القوة والنفوذ الروسي والصيني أيضاً. فمشروع الدرع الصاروخية في أوروبا كما في الخليج قد يخلق انعكاسات كبيرة على المستوى العالمي كأن نستعيد مناخاً شبيهاً بأجواء الحرب الباردة حيث التهديدات الأمنية العالمية المتبادلة. والسبب في ذلك يرجع إلى حدوث إخلال بالتوازن الإستراتيجي تحديداً بين واشنطن وكل من بكين وموسكو بشكل لا يمكن احتماله من قبل هاتين الدولتين.