يشعر المرء في نيروبي بأنه في قلب القارة النابض بالفعل، وفي زيارتي الأخيرة هذه (أول أبريل 2012) وجدتها أكثر حيوية وإيحاء بالسياسات والتساؤلات. كانت الندوة عن أبعاد الثورات العربية في القارة الأفريقية، ويشعر المرء خلالها مثلما شعرت بذلك في ناميبيا منذ شهر مضى، بل ومن تقارير عن ندوات أخرى في "غانا" و"جنوب أفريقيا، أن ثمة تساؤلاً قلقاً عن مدى امتدادات آثار هذه "الثورات" العربية بين جماهير القارة. ويؤسفني أن أسجل مبكراً أن أحداث ليبيا، بل وما انتهى إليه الحال هناك بعد "الثورة"وكذا أحداث سوريا، جعلت الشباب قبل الشيوخ في أنحاء من القارة قلقين مما يسخر منه الجميع عن "الربيع العربي"! لكنى أعترف أيضاً ومبكراً أن مناقشاتهم بأشكال مختلفة في هذا الصدد، هى تعبير جديد عن الاهتمام الأفريقي بالشأن العربي من جهة، كما أن المناقشات في كثير من الأحيان تنتقل سريعاً إلى البحث في أعماق الموضوع لمعرفة الأسباب والأبعاد وإمكانيات التكرار في المناطق الأخرى. وقد يكون لذلك اختار منظمو الندوة الأثيوبيون والكينيون عنواناً لها هو: "التسلطية وامكانيات استمرارها أو تحديها بعد الثورة"! كان ذلك موضوع التحليلات العلمية لآليات استمرار النظم القديمة، وتبرعت من جانبي بتعبير "الاستبدادية المستدامة "من خلال واقع الحال بعد الثورات! وابتسم الجميع للتعبير بما بدا، بعد تحليل الظواهر أن له قدراً من الصحة. وكان مبرر ذلك اللجوء إلى منهج سوسيولوجي أشمل وليس مجرد مفاهيم السياسة التقليدية عن الديمقراطية والتعددية، والحريات العامة...الخ. وحيث ارتضت الندوة بمفاهيم السوسيولوجيا السياسية بديلاً عن التحليلات الليبرالية التقليدية، فقد غاصت في التساؤل عن التغييرات الجذرية التى قد تكون تمت أو لم تتم في الواقع المصري أو التونسي، وطبيعة القوى الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية التى جرى أو لم تجر إزاحتها أو تحقق صعودها، والمشروعات الجديدة التي قد تكون طرحت لصالح جماهير الثورة. ولأن الحالة الليبية أو السورية في "الربيع العربي" كانت ذات سيطرة ملفتة فقد بدونا – نحن "العرب" الحاضرين في مأزق مع التطلعات الأفريقية عن ذاك" الربيع" أمام سخرية البعض من أنه ينحدر عملياً إلى الشتاء! وقد نقل البعض عن ندوة في أكرا "استفتي فيها حوالى المائة من الحضور عما إذا كانوا يأملون في الربيع العربي أو يتوقعون تكراره في بلادهم فأجاب 95 في المئة منهم بالنفي! كنت طوال الوقت أفكر في أسباب تشاؤم الأفارقة بهذا الشكل من حدث كان وما زال- له هذا الوهج. وقد كنت أتابع من قبل تصاعد هذا التشاؤم نتيجة احتجاج الشباب الأفريقي ممن قابلتهم في "ناميبيا"، وفي "كيب تاون" وغيرهما- أن الحالة العربية رغم وهجها الثوري، فإن ما اقترن بها من تدخل أجنبي سافر بمعاونة عربية، وتصاعد تيارات أصولية بعضها بالغ التطرف مثلما في ليبيا تحديداً وحتي في مصر، لا يوحي بالتفاؤل حتى عبر البعض عن ذلك بتساؤل عن عدم جدوى الانتقال من "الوضع القائم" إلى وضع- بل وحال – اللامؤكد، أي التغيير المنشود من حالة الاستبداد القائمة إلى حالة "استبداد مستدام"، بل إن ذلك نفسه جعلهم يلحون في الأسئلة الموجهة للجانب العربي عما إذا كانت حالة الاستبداد قد تغيرت مع بقاء عناصر النظام السابق، العسكرية والبيروقراطية والإعلامية ونمط الحكم، أو تفرد الإسلاميين؟ بل وتساءل أحدهم، ودهشت أنه أثيوبي تحديداً – عما إذا كان ثمة تغيير في الموقف العربي- لا يلاحظه هو- تجاه القضية الفلسطينية وإسرائيل؟ ومع ذلك فهو نفسه الذي رأى في تحليله بما زاد دهشتي، أن الثورات العربية أثبتت للعالم الآن أن إسرائيل ليست الحالة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. وانتقل التساؤل بعد ذلك عن ملاحظة أنه لا تغيير في العلاقة أو في شروط البنك الدولي، أو المساعدات الأجنبية، أو مدى حدوث توافق أفضل، وليس أسوأ، مع المحيط العربي والأفريقي للثورات العربية؟ لم يكن أي من المتسائلين بحاجة لاثبات آرائه بما يحدث في "مالي" من تداول الأسلحة الليبية مباشرة في يد الطوارق الإنفصاليين، وأن هذه الأسلحة تقلق كافة دول غرب أفريقيا. كانت إجابات التهدئة أو التفاؤل تصدر عنا بصعوبة، آملين في أدوار الشباب، والتعدد السياسي الاجتماعي في بلادنا وآثاره المحتملة على الصيغة القادمة، لدرجة أن ثمة عشر وثائق سياسية مقدمة للتحرك الدستوري في مصر، وهيكل دستوري جديد تماماً في تونس، وكل القوى الاجتماعية تملأ أنحاء البلاد بالاضرابات المشروعة من أجل مطالب الجماهير الحية والواعية باحتياجاتها، وأن ذلك "ما يصنع" الثورات في النهاية! شارك في الندوة جنرال أميركي متقاعد ضمن خبراء مجلس السلام والأمن بالاتحاد الأفريقي، كما كان هناك ممثل الاتحاد الأوروبي لدى الاتحاد الأفريقي أيضاً، ولم نستطع أن نستنتج منهما إلا ضعف وهوان هذا الاتحاد، وقواته لحفظ السلام، التي أضعفت امكانياته لاستخدام مواد دستورية للتدخل هنا وهناك سواء في ليبيا من قبل، أو في مالي حالياً، وحيث بدا لنا التأثير الكبير لعلاقات القذافي السابقة بالاتحاد، فقد دافع البعض بأن ذلك ليس صحيحاً، وإن كانت سرعة تمويلاته لتحركات الاتحاد هي التي تبدو مستمرة التأثير. وعندما راح الغربيون في الاجتماع يلوحون بعدم قدرة أفريقيا على التدخل بسبب أوضاعها السياسية والاقتصادية، ألمح البعض إلى حالة الجامعة العربية التى يملك أطرافها الإمكانيات، ولم تستطع أن تكون بديلاً لتدخل"الناتو"، كما تبدو زاحفة لنفس الوضع مع تطور أحداث سوريا. هنا بدا أنه تجري المحاولات لتجنيب دول القارة مثل هذه التطورات، ومن ثم بدا التساؤل عن آثار تطوير الوضع الاقتصادي بحجب الثورة، وهل لجوء بعض النظم لاجراءات اقتصادية احترازية جدير بترضية جماهيرها بديلاً للثورة؟ وكان السؤال النظرى إذن: هل هي مجرد مسألة تنمية اقتصادية أم حقوق للجماهير في ثرواتها وإدارتها على السواء؟ كان لابد من الخروج من هذه الأجواء المشحونة بالتوتر، ولم ينقذنا إلا تفاؤل الكينيين بدورهم الجديد في شرق أفريقيا، وبالثروة الموعودة من البترول في مناطقها الصحراوية البعيدة عن الصراع حتي الآن في "توركانا" إلى حد أن توقع البعض أن تكون من أكبر مصادره في العالم! ومع هذا التفاؤل يبدو الواقع السياسى الكيني الذي قفز بعملية ديمقراطية مشهودة عام 2010 مهدداً بعملية صراع محتمل حول الرئاسة في العام القادم ...ولهذا كله حديث آخر جدير بالتعمق.