أعلنت "حركة تحرير أزواد" يوم 5 أبريل الجاري استقلال هذا الإقليم الصحراوي الذي كان يشكل ثلثي دولة مالي غرب أفريقية. الحركة الانفصالية اختارت مدينة "تنبكتو" الأسطورية عاصمة للدولة الجديدة التي لا يتوقع أن تنال أي اعتراف خارجي، حتى ولو كان من العصي على القوات المالية المهزومة استعادة المبادرة في هذا الشريط الصحراوي الفسيح والوعر. ومع أن قبائل الطوارق والعرب في شمال مالي قد انتفضت مرات متتالية (في ستينيات وتسعينيات القرن الماضي)، إلا أن انتصارها العسكري على الجيش المالي لم يكن ليقع لولا توافر عدة مستجدات في الفترة الأخيرة من أبرزها دخول كتائب مدربة ومدججة بأحدث الأسلحة من ليبيا بعد سقوط نظام القذافي. والمعروف أن المنطقة لم تعد منذ سنوات تخضع بصفة كلية لسيطرة الحكومة المركزية المالية التي لا تخفي عجزها عن مواجهة المجموعات الإرهابية المتشددة (المقربة من تنظيم القاعدة ) التي تزايد نشاطها بشكل ملحوظ في الفترات الأخيرة. وفي حين تشير المعلومات المتداولة إلى أن بعض الجهات وفي مقدمتها أطراف عسكرية ومخابراتية فرنسية شجعت ضمنياً اختراق "حركة تحرير أزواد" لشمال مالي أملاً في سيطرة القوميين الطوارق "المعتدلين" على المنطقة لمواجهة المجموعات الإسلامية المتشددة، فإن الحقيقة الماثلة اليوم للعيان هي أن التنظيمات الجهادية المسلحة (حركة أنصار الدين على الخصوص)، هي المستفيد الأول من انفصال الإقليم، وقد غدت تسيطر عملياً على عاصمته "تنبكتو"، مدينة العلم والمخطوطات التي كان يطلق عليها في العصر الوسيط "جوهرة الصحراء" أو "أثينا أفريقيا". ومع أن دول الساحل الأفريقي، قد أجمعت على دعم مالي في حربها ضد الانفصاليين بعد إفشال الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس "توماني توري"،كما أن فرنسا عبرت عن الاتجاه نفسه، إلا أن المواجهة المسلحة مع الانفصاليين الطوارق والمجموعات المتطرفة ليست مضمونة النتائج مسبقاً، بل تبدو أقرب للمغامرة الطائشة والعقيمة. فمع أن المجموعات الجهادية المسلحة لا يزيد عناصرها حسب التقديرات المتداولة عن ألف مقاتل، إلا أن معطيات المعادلة الداخلية في الإقليم توفر ملاذاً "آمناً" لمختلف المجموعات الخارجة عن الشرعية والتحكم التي يندرج نشاطها ضمن منطق الرهانات الإستراتيجية لهذه المنطقة الواسعة الممتدة من البوابة الأطلسية إلى القرن الأفريقي والبحر الأحمر. الحركات الإسلامية المتطرفة تشكل طرفاً محورياً في شبكات القرصنة والتهريب النشطة على طول المسالك الصحراوية الجبلية الوعرة الطويلة التي تعجز الحكومات الضعيفة الفقيرة عن التحكم فيها. وتفيد الأرقام التي نشرتها صحيفة "لوموند" الفرنسية (12 مارس 2012) أن 15 بالمائة من تجارة الكوكايين العالمية تمر بهذه المنطقة التي غدت في اتصال مباشر بشمال نيجيريا (مجموعات بوكوم حرام)، وبتنظيم "الشباب الإسلامي" المسيطر على أغلب مناطق الصومال. ومنذ سنة 2007 اختطفت المجموعات الجهادية المسلحة ثمانين أوروبياً من بينهم 13 ما زالوا في الأسر، وحصل القراصنة من عمليات الاختطاف على فديات مالية قدرها 183 مليون يورو، في ما يشير إلى الرهانات الملتبسة والمعقدة في الديناميكية الإرهابية التي يقترن فيها المعطى "العقدي" بتجارة التهريب والقرصنة التي تجمع بين أطراف كثيرة في المنطقة. بيد أن الإشكال الاستراتيجي الحاد المطروح اليوم على القوى الإقليمية والدولية المعنية بالوضع الساحلي يتعلق بمقاربات وآليات التسيير الناجع البديل لهذا الفضاء الإقليمي الذي يختزن شتى الثروات الطبيعية المعدنية والنفطية التي تستثير اهتماماً عالمياً متزايداً. فمن الواضح أن المعادلة الجيوسياسية التي صممها الاستعمار الفرنسي في مطلع القرن العشرين بإنشاء دول مركزية ثلاث في الفضاء الساحلي – الصحراوي الأفريقي (مالي والنيجر وتشاد) لم تنجح في احتواء المكون الصحراوي ضمن النسيج الوطني المندمج للكيان السياسي. ويتعلق الأمر هنا أساساً بالمجموعات الطارقية الممتدة من جبال إدرار الجزائرية إلى جنوب ليبيا، متركزة في دولتي مالي والنيجر (وبوركينا فاسو بصفة أقل). تنضاف إلى المجموعات الطارقية القبائل العربية في المنطقة نفسها، التي تتداخل معها من حيث البنية المجتمعية وطبيعة الحياة البدوية المتنقلة ونمط التقاليد الدينية والعلمية. والمعروف أن الزعامات التقليدية للطوارق وعرب الساحل، قد عارضت عند استقلال بلدان المنطقة (عام 1960) الانضمام إلى تلك الدول التي صممتها الهندسة الاستعمارية الفرنسية، فكتبت بهذا المعنى رسائل إلى "الجنرال ديجول"،كما انتفضت بشكل عارم في سنوات الاستقلال الأولى دون نجاح. ولقد طرحت الإدارة الفرنسية سنة 1957 مشروعاً لضم الأقاليم الصحراوية في الجزائر ومالي والنيجر مع إمكانية التوسع لموريتانيا جوبه برفض الحركة الوطنية في المغرب العربي. بيد أن بعض الدوائر الفرنسية أصبحت تطرح مجدداً المشروع في أفق جديد وصيغة مغايرة للحيلولة دون تفكك الدول الساحلية العاجزة عن تأمين وإدارة مجالها الصحراوي. فما دامت المجموعة الأفريقية قد تخلت عن المبدأ المقدس الذي قام التكتل الأفريقي أي مبدأ التشبث بالحدود الموروثة عن الاستعمار بقبول استقلال أريتريا عام 1993 وجنوب السودان عام 2012، فان التخوف قائم من تنامي النزعات الانفصالية في غرب أفريقيا.ولذا فان الخيار المطروح في الإقليم الساحلي الصحراوي، هو ما بين التفكك الفعلي بعجز الحكومات القائمة عن احتكار العنف والتحكم في مسالك القرصنة والجريمة والإرهاب أو السماح بأنماط جديدة من إدارة الفضاء الجغرافي – البشري وفق خصوصياته الاثنية والثقافية.ومن هنا فكرة الحكم الذاتي الموسع في إقليم إزواد الذي تطرحه الأطراف الوسيطة في النزاع الداخلي المالي. وبطبيعة الأمر، لا سبيل لفصل المشكل الطارقي عن دوائر الأزمات المتصلة في الحزام الصحراوي الشمالي وفي مقدمتها الدائرة الليبية المشتعلة. ومن المؤشرات الواضحة على هذه المعادلة الجديدة بروز تكتل قومي أمازيغي واسع التأم في شكل "كونجرس عالمي" في أكتوير 2011 بتونس بحضور ممثلين من بلدان المغرب العربي ومن مصر بالإضافة إلى منطقة كناري الإسبانية وبلدان الساحل الأفريقي، حتى ولو كانت أهداف الحركة الأمازيغية في المغرب العربي تتميز بكونها تنحصر في المطالب الثقافية.