لاشك أن على الأجندة الأميركية الآن أكثر من عنوان، وفي مقدمة ذلك استحقاقات ما بعد الانسحاب الأميركي من العراق والاستعداد لبدء الانسحاب من أفغانستان، وكذلك الأعباء المالية وتداعيات الأزمة العالمية، وانكماش أميركا الاستراتيجي وإعادة تركيز استراتيجيتها الدولية على آسيا والصين وصعود هذه الأخيرة المالي والاقتصادي الذي سيستخدم كقاعدة انطلاق لمنافسة أميركا، ولكن على رغم كل ذلك تبقى منطقة الخليج العربي عاملًا مؤثراً ويحظى بأهمية وأولوية في العقيدة الأمنية والاستراتيجية الأميركية. وقد بدأت أميركا في ظل نقاشات محمومة عن تراجع الحضور والدور الأميركي العالمي، بسبب الانسحاب من العراق والاتجاه شرقاً في استراتيجيتها للمحيط الهادئ والصين، تتحدث عن تحالفات أوثق مع حلفائها لتتحمل معهم الأعباء burden-sharing. ولأول مرة باتت أميركا مقتنعة بأهمية الارتقاء مع بعض الدول، وخاصة مع دول مجلس التعاون الخليجي، من مستوى التحالف إلى مستوى الشراكة، From alliance to Partnership على رغم الحساسية المفرطة عادة لدى أميركا من الشراكة مع حلفائها. وحتى في علاقتها مع دول مجلس التعاون خلال العقد الماضي يبدو التفاوت أيضاً في مستوى تلك العلاقة مع دول المجلس، فالبحرين والكويت مثلاً لديهما وضع مختلف عن دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى في العلاقة مع واشنطن. ذلك أن البحرين والكويت حليفان رئيسيان مع الولايات المتحدة من خارج حلف "الناتو". وهذه العلاقة هي الأرقى بين أميركا وأي دولة من خارج دول الحلف الأطلسي الثماني والعشرين. وكذلك انفردت البحرين في عام 2004، وبعدها عُمان في عام 2009، بتوقيع اتفاقية ثنائية للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة، بينما دول المجلس الباقية لم توقع حتى اليوم اتفاقية للتجارة الحرة بشكل ثنائي أو جماعي مع أميركا. وخلال العام الماضي، وكما أوضحنا في العديد من المقالات في هذه الصفحة، صعد نجم وحضور دول مجلس التعاون الخليجي بشكل ملفت على المستوى الإقليمي، وخاصة مع التفكير الجدي في التحول من التعاون إلى الوحدة بين دول مجلس التعاون لتتحول إلى كونفدرالية متماسكة بدلاً من وضعها الفضفاض الحالي. وكان واضحاً تنامي الدور الخليجي إقليميّاً. وبرز ذلك جليّاً في كل من الشأن اليمني والليبي والسوري، حيث برز الحضور الخليجي كلاعب مؤثر وقوة دفع ورافعة للأمن والاستقرار في المنطقة. وأتى الانسحاب الأميركي من العراق وإعادة رسم استراتيجية أميركية جديدة للأمن الخليجي على المستوى المنظور، بالإضافة إلى المواجهة الدائمة والمد والجزر مع طهران، وما يتخلل ذلك من سياسة العصا والجزرة وإصرار الأميركيين على عودة ملف إيران النووي إلى الواجهة، وسط سيناريوهات حرب أو حرب نفسية، وانتعاش توقعات بإمكانية إقناع طهران بجدوى الانخراط في مفاوضات بناءة حول برنامجها النووي في اجتماعها مع الدول الخمس الكبرى وألمانيا في إسطنبول خلال الأسبوع القادم. ثم جاء عقد أول منتدى للتعاون الاستراتيجي بين دول مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة، بحضور وزراء خارجية دول المجلس الست ووزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، مؤخراً في مقر الأمانة العامة لمجلس التعاون في الرياض، ليكرس التحول الاستراتيجي في تعامل الولايات المتحدة الأميركية مع دول المجلس كمجموعة صلبة واحدة متماسكة وبشكل جماعي. والاعتراف الأميركي بالدور الحيوي والاستراتيجي والمحوري لدول المجلس على الساحتين الإقليمية والعربية، حيث أصبحت هذه الدول، كما أوضحنا، هي قائد الأمر الواقع للجانب العربي، وخاصة أن دول المجلس ما فتئت تطالب منذ سنين بالتعامل الجماعي، وليس الثنائي، في العلاقة بينها وبين الأميركيين والاتحاد الأوروبي وحلف "الناتو"، وليس كما دأبت واشنطن و"الناتو" وأوروبا، في تعاملهم منذ عقود مع دولنا فرادى، وبشكل ثنائي، عن طريق الاتفاقيات الأمنية والدفاعية وحتى التجارية، وذلك لاقتناع أميركا و"الناتو" بأن التعامل مع دول المنطقة بشكل جماعي يُضعف ويؤثر على مكانتهما وثقلهما في المنطقة. ويأتي هذا التحول المهم في طبيعة ومستوى العلاقة لرسم هيكلية استراتيجية سياسية وأمنية واقتصادية جديدة للتعاون بين دول المجلس من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى. وليس بسبب إيران كما يحلو لطهران وحلفائها الترويج له، وخاصة في ظل وجود تحديات مشتركة تبقى في حاجة إلى عمل جماعي بين دول المنطقة في التعامل معها لضمان الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي. وكذلك العلاقات الواسعة في مجال أمن الطاقة، زيادة على العلاقات المالية والاقتصادية، وتحديات مواجهة الإرهاب، وانتشار أسلحة الدمار الشامل والسلاح النووي والصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى، وخطر القرصنة في خليج عمان والبحر الأحمر وبحر العرب. وكذلك تطوير وتحسين الأنظمة الأمنية والدفاعية- operability المشتركة في معادلة ربحية مشتركة بين الأطراف المعنية. وهذا هو التفكير والتخطيط الاستراتيجي المطلوب بإلحاح. إن هذا التحول في النظرة والعقلية الأميركية، وبالتالي الغربية، تجاه دول المجلس يُعد انتزاعاً لحق مكتسب، بقدر ما هو فرض للأمر الواقع على المعطيات. وهذه خطوة متقدمة مع دول مجلس التعاون التي أصرت أميركا لسنوات طويلة، وخاصة بعد تحرير دولة الكويت قبل عقدين من الزمن، على التعامل معها بشكل ثنائي وليس جماعيّاً، وكحلفاء وليس كشركاء. وذلك لحيوية ومحورية واعتدال دول مجلس التعاون، ولثبات دورها ومكانتها مراراً وتكراراً كحليف موثوق به ويمكن التعويل عليه في العمل الجماعي للمساهمة في أمن واستقرار منطقة الخليج في معادلة ربحية لتحقيق المصالح المشتركة. وهذه القضايا تشكل العصب الرئيسي للاستراتيجية والعقيدة الأمنية الأميركية لإدارة أوباما الحالية، وكذلك للإدارات الأميركية في المستقبل. كما أن دول مجلس التعاون صاحبة أكبر اقتصاد في المنطقة الممتدة من إسبانيا إلى الهند، وبدخل جماعي للدول الست يتجاوز 1,3 تريليون دولار. كما أنها صاحبة صناديق ثروات سيادة مؤثرة على المستوى الدولي، وأسواق للبضائع الأميركية العسكرية والمدنية. وذلك كله يجعلها لاعباً إقليميّاً مؤثراً في مجالات عديدة، وشريكاً لا يمكن لدولة لديها الكثير من المصالح في النظام العالمي في ظل أوضاع أمنية غير مستقرة، سوى التعامل معه بشكل جدي وفعال. ولذلك لم يكن مستغرباً تأكيد الوزيرة كلينتون في منتدى التعاون الإستراتيجي الأول بين دول المجلس وأميركا "على أن صلابة التزام أميركا بأمن دول وشعوب الخليج كصلابة الصخر"، متحدثة عن إقامة مظلة ودرع صاروخي أميركي- خليجي لحماية دول المنطقة. وبطبيعة الحال فإن كلا الطرفين، الخليجي والأميركي، لديهما مصلحة ملحة في وضع تصور وتحديد تواريخ واضحة للاجتماعات القادمة، في أفق نشر الدرع الصاروخية وتشكيل لجان عمل مشتركة من مسؤولين وخبراء لوضع التصورات وتقديم خريطة طريق لعلاقة استراتيجية متكافئة ودائمة طال انتظارها وأصبحت حاجة ملحة لمصلحة الطرفين، دون الالتفات لما يهدد ويتوعد به البعض، وتروج له الأطراف المتضررة من تمتين وتوثيق الشراكة بما يخدم مصالحنا، ويحد من نفوذها وخطرها. وفي المحصلة النهائية فهذه هي السياسة.