الرقابة أنواع وأشكال، ومن أنواعها وأشكالها الرقابة السياسية، والأمنية، والدينية، والتعليمية، والأدبية، بالإضافة إلى الرقابة العلمية. وتنتقص الترجمة العربية للمصطلح الإنجليزي (Censorship) من المضمون الأساسي لهذا المفهوم، حيث غالباً ما لا يقتصر الموضوع على مجرد المراقبة، بل يمتد إلى التعتيم الإعلامي، وإلى قمع الفكر، وكبت حرية الرأي والتعبير. وعلى عكس أنواع وأشكال الرقابة الأخرى لا تحظى الرقابة العلمية بنفس الاهتمام، ولا بتقدير حجمها وتأثيرها على مسيرة العلم وتطوره. وبوجه عام تنقسم الرقابة العلمية إلى قسمين رئيسيين: الرقابة الذاتية، والرقابة الخارجية. في النوع الأول، أو الرقابة الذاتية، ينحو العالم أو الباحث إلى عدم نشر اكتشافاته ونتائج دراساته، بسبب تعارضها أو تصادمها أحياناً مع الفكر والثقافة العامة، أو مع الأجندات السياسية لبعض النظم الحاكمة. وأفضل مثال على هذا النوع من الرقابة العلمية الذاتية هو تقاعس العلماء الألمان في عهد النازية عن نشر الأبحاث والدراسات التي تتعارض مع الفكر الشائع للرايخ الثالث الذي كان يزعم وجود فروق جوهرية بين الأجناس والأعراق البشرية، أو رفضهم قبول نظرية النسبية للعالم "أينشتاين"، كونه يهودي الديانة. أما النوع الثاني، أو الرقابة الخارجية على الأفكار، والأبحاث، والدراسات، والنتائج العلمية، فقد يمارس من قبل القوى السياسية، أو الجهات الأمنية، أو من خلال المرجعيات الدينية، وأحياناً من قبل المؤسسات العلمية ذاتها. فلعقود طويلة حاولت بعض هذه الجهات قمع وكبت التطورات العلمية في مجالات متنوعة ومختلفة بدءاً بالرياضيات والفيزياء، مروراً بعلم التشفير والبصريات، وانتهاءً بالعلوم النووية والبيولوجية. ومؤخراً امتدت هذه الاتجاهات والأفكار الرقابية لتشمل واحداً من أكثر العلوم الحديثة تسارعاً في وتيرة ما يحققه من اكتشافات واختراقات، وهو علم الفيروسات، وخصوصاً المجال المعني منه بتغيير التركيبة الوراثية لهذه المخلوقات العجيبة، سعياً وراء تعميق الفهم لقدرتها على العدوى والتسبب في أوبئة عالمية. وهذه القضية عادت مرة أخرى للظهور على السطح بقوة منذ نهاية الصيف الماضي عندما خرج عالم هولندي يدعي "رون فوشيير" على العالم بمفاجأة علمية ضمن فعاليات أحد المؤتمرات المتخصصة في علم الفيروسات فتحت أبواب الأمل لدى كثير من المتخصصين في هذا المجال، وأثارت القلق الشديد لدى بعضهم الآخر. وهذه المفاجأة ملخصها هو نجاح هذا العالم الهولندي، الذي يعمل في أحد المراكز العلمية بمدينة روتردام (Erasmus Medical Center)، في إدخال تعديلات وراثية جينية -خمسة تقريباً- على فيروس إنفلونزا الطيور (H5N1)، مكنت الفيروس من الانتقال بسهولة بين حيوانات النمس، مما يزيد من احتمالات انتقاله أيضاً بين أفراد الجنس البشري، وإن كان بشكل غير أكيد. وهو ما يسقط بشكل كبير خط الدفاع الأول والأهم أمام وقوع وباء عالمي من إنفلونزا الطيور، يتوقع إن حدث أن يذهب ضحيته عشرات وربما مئات الملايين من البشر، وهذا الخط هو عدم قدرة الفيروس بتركيبته الوراثية الحالية على الانتقال بين البشر بسهولة. وعلى رغم أن أبحاث البروفيسور "فوشيير" كان الهدف منها معرفة التغييرات التي يحتاجها الفيروس، ومن ثم متابعة ومراقبة ما إن كانت هذه التغييرات تحدث في الطبيعة بالفعل أم لا، ومنح الجهات الصحية والطبية وقتاً كافيّاً لتحضير التطعيمات والأمصال في المستقبل التي يمكنها تحقيق الوقاية من مثل هذا الفيروس "السوبر"، إلا أن هذا الاختراق أثار أيضاً مخاوف عديدة من إمكانية استخدام الفيروس "السوبر" كسلاح بيولوجي جرثومي. وهذه المخاوف بالتحديد هي التي منعت من نشر كافة تفاصيل التغييرات الوراثية المطلوبة، وكيفية إجرائها، حتى تتم مراجعة الموضوع برمته من قبل المجلس الاستشاري العلمي الوطني للأمن البيولوجي في الولايات المتحدة (National Science Advisory Board for Biosecurity )، الذي أنشئ في أعقاب وقوع هجمات متكررة بميكروب الجمرة الخبيثة عام 2001. ولحسن الحظ جاء قرار المجلس بداية الأسبوع الماضي بالموافقة على نشر تفاصيل هذا البحث، مما أثلج صدور العاملين في هذا المجال العلمي المتخصص. وبنى المجلس الاستشاري للأمن البيولوجي قراره هذا على عدة معطيات منها قيام البروفيسور "فوشيير" بمراجعة ورقته البحثية، وإضافة المزيد من المعلومات، وخصوصاً على صعيد توضيح نقطة أن الفيروس المخلق، ليس قاتلاً وفتاكاً بالدرجة التي كان يعتقدها كثيرون للوهلة الأولى. كما تعرضت الإضافات في الشكل النهائي للورقة البحثية لكيفية إجراء نفس التجربة بدرجة عالية من الأمن والسلامة، واستعرضت بالتفصيل الفوائد التي يمكن للمجتمع العلمي أن يجنيها من هذا البحث، على صعيد التجهيز والاستعداد لأي وباء عالمي محتمل، وهو ما قد ينجح في إنقاذ حياة الملايين حينها. وعلى رغم أن قصة التعديلات الوراثية لفيروس إنفلونزا الطيور قد انتهت نهاية سعيدة في رأي كثيرين، إلا أنها أظهرت بشكل جلي المخاطر الكامنة أحياناً في الأبحاث العلمية، وخصوصاً البيولوجية والجينية منها، والحاجة إلى تفعيل مفهوم الرقابة -سواء كانت رقابة ذاتية أو خارجية- على نتائج هذه الأبحاث، وبشكل متوازن ومدروس، يحقق الفوائد المرجوة ويجنب المجتمع آثارها الجانبية السلبية.