حضرت قبل فترة ليست بالقريبة دورة في إحدى الدول الأوروبية، وكان موضوع اللقاء "الثقافة في المجتمعات سريعة النمو"، وقد اخترت مدينة أبوظبي لتقديم مشاركتي باعتبارها من المدن سريعة النمو. ولأن الوقت المحدد للمداخلة كان ضيقاً، فقد "تسلحت"ببعض الصور للدلالة على ما أريد عرضه. وبدأت بعرض صورة لشاطئ أبوظبي في فترة الستينيات، حيث كانت المباني قليلة والكثير منها من العشش والحجارة دون وجود لأي معلم يدل على الحياة الثقافية في هذه المدينة. وما أن عرضت الصورة حتى تهامس الحاضرون وهم من دول أوروبية وأميركية جنوبية وبعض الآسيويين، وبدت علامات "الشفقة " على من يسكن هذا المكان، وما أن أشبعوا رغبتهم حتى عرضت صورة لكورنيش أبوظبي بوضعه الحالي، متبعاً ذلك بقولي: "إن هذه الصورة أُخذت لنفس المكان السابق"... لم تبدو على وجوههم علامات العجب بقدر ما بدت علامات عدم التصديق. وبدأوا يتهامسون فيما بينهم، باعتبار أن ما أقوله غير حقيقي، لم يكن أحد ليصدق ما أقول سوى زميلي أحمد الذي يسكن في أبوظبي، ومشرفة الدورة السيدة سارة التي سارعت بنجدتي قائلة: إن هذا المكان جميل لممارسة رياضة المشي، وقد كنت أقوم أنا وزوجي القنصل البريطاني السابق بالمشي على كورنيش أبوظبي كلما كان الطقس مناسباً..."، شعرت وقتها بشئ من الراحة لمواصلة تقديم مداخلتي. أردت بهذا أن أشير إلى أن أبوظبي لم تتغير عمرانياً فقط، بل تغيرت في كثير من جوانبها. ففي الأسبوع الماضي أغلق معرض أبوظبي الدولي للكتاب أبوابه في دورته الثانية والعشرين ليسهم في نشر"عادة" القراءة بين المواطنين والمقيمين، وقد تميز المعرض بتعدد مشاركاته، التي شملت مكتبات عدة جاءت من دول كثيرة، كما تميز بتنوع محتواه وتلبية رغبات كافة الفئات إلى جانب حسن التنظيم وجمال العرض، ومعرض الكتاب ليس هو الظاهرة الثقافية الوحيدة في أبوظبي، فقد شهدت المدينة نشاطاً واهتماماً ثقافياً واسعين منذ تولي المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله مقاليد الحكم في الإمارة ثم رئاسة الدولة. ولعل مركز الوثائق والدراسات أحد أبرز معالم تلك المرحلة، فهذا المركز الذي ينظم "كنوزاً من الوثائق التي تم جلبها من مصادرها في بريطانيا والهند والبرتغال وهولندا وغيرها من دول العالم، يُعد واحداً من المراكز المهمة للوثائق المتعلقة بتاريخ المنطقة إلى جانب دوره في الاهتمام بالوثائق من خلال الدراسات والمؤتمرات والدورات، التي تعنى بتاريخ المنطقة. وإلى جانب المركز، فإن المجمع الثقافي - قديماً - وهيئة الثقافة والتراث التي أصبحت من أنشط المؤسسات الثقافية في المنطقة، فبرامجها الحافلة بالتنوع الثقافي بين تراثية وفنية وإبداعية وعلمية وأدبية، مما يشكل نسيجاً متكاملًا من العمل الثقافي. كما يأتي مشروع "كلمة" كأداة فاعلة في رفد الحياة الثقافية بالجديد من المعرفة الإنسانية، فإصداراته التي تجاوزت 700 كتاب بين كتاب عربي أو مترجم تشمل مختلف المعارف الإنسانية، مما يعد إضافة متميزة للمكتبة العربية. ويأتي مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، ليشكل صورة أخرى لاهتمام أبوطبي بالثقافة والبحث العلمي، فقد استطاع المركز خلال سنواته التي مرت أن يصبح ميداناً للدراسات والمؤتمرات والنشاطات التي تسهم في إثراء الحياة الثقافية العربية. وإذا كانت هذه المؤسسات تعبر عن الحالة الثقافية لمدينة أبوظبي، فإن هناك صوراً متعددة لهذه الحالة، فمتحف العين الذي يعد أقدم متحف في الإمارات يعتبر واحداً من متاحف المنطقة التي تضم آثاراً تعود لعصور موغلة في القدم، تؤكد أن إنسان المنطقة، قد استوطن هذه الأرض منذ القدم، وأنه بنى حياة مدنية متقدمة تشهد بها آثاره التي يضمها متحف العين. وإلى جانب المتحف، فإن القلاع والحصون التي تزخر بها مدينة أبوظبي ومدينة العين وفي مقدمتها قصر الحصن في أبوظبي، وقلعة الجاهلي والمريجب والمربعة وغيرها من الأماكن التراثية، تقف شاهدة على إنجاز أبناء هذه المنطقة. وإذا كانت هذه المؤسسات، تمثل صورة من تطور الحياة الثقافية، فإن "العقد الثقافي" لا يكتمل إلا بالمؤسسات الأكاديمية كجامعة الإمارات وجامعة الشيخ خليفة وكليات التقنية وغيرها من المؤسسات التي تزخر بها أبوظبي. أردت بكل هذا أن أشير إلى أن عاصمتنا الجميلة أبوظبي، يمكن أن تصبح عروساً للثقافة العربية حتى يكتمل دورها السياسي مع الاقتصادي ثم الثقافي، لذا أدعو وزير الثقافة والشباب وتنمية المجتمع الصديق عبدالرحمن العويس وأركان وزارته إلى إعداد ملف متكامل والتقدم به لاختيار عاصمتنا لتكون عاصمة للثقافة العربية، فأبوظبي تستحق منا أكثر من ذلك. د.سعيد حارب كاتب إماراتي drhareb@gmail.com