قمة بغداد الأخيرة أعادت إلينا الكثير من الذكريات المرتبطة بالقمم العربية التي لم تثمر على مدى السنوات الست والستين الماضية إلا عن قرارات إنشائية (نحو 250 قراراً) لم ينفذ منها شيء على أرض الواقع. من كان في عمرنا لم يعاصر طبعاً القمة الأولى التي انعقدت في أنشاص المصرية في مايو 1946 بدعوة من فاروق الأول ملك مصر والسودان ودارفور وكردفان للبحث في التصدي للمد الصهيوني في فلسطين. لكننا عرفنا لاحقاً من كتب التاريخ أنها عقدت بمشاركة الدول المستقلة السبع المؤسسة للجامعة العربية. أما القمة الثانية، التي عقدت في بيروت في نوفمبر 1956 بدعوة من الرئيس اللبناني كميل شمعون للبحث في تداعيات العدوان الثلاثي على بورسعيد ولمساعدة مصر في أزمة السويس، فأيضاً لم نستوعب تفاصيلها وظروفها لأنها انعقدت يوم كنا صغاراً لا نفهم في السياسة، لكننا عرفنا لاحقاً أنها انعقدت بحضور ملوك السعودية والعراق والأردن وولي عهد اليمن ورؤساء سوريا ولبنان ورئيس حكومة ليبيا التي كانت قد استقلت وأنضمت إلى الجامعة في 1951، فيما غاب عنها رئيس الدولة المعنية (مصر) التي مثلها سفيرها في بيروت عبدالحميد غالب. ثم جاءت القمة الثالثة التي دعا إليها الرئيس المصري جمال عبدالناصر في خطاب له في بورسعيد في 1963 من أجل تنقية الأجواء العربية استعداداً – كما قيل – لوضع آلية لمواجهة التهديدات الإسرائيلية بتحويل مجرى مياه نهر الأردن. فكان أن سارع نظراؤه العرب إلى الاستجابة فوراً لدعوته، متجاوزين كل ما ألحقته بهم أجهزة إعلامه من شتائم وأكاذيب وبذاءات. وقتها كنا في سن المراهقة، وكان الحماس معطوفاً على السذاجة يستبد بنا إلى حد أننا صدّقنا أن مجرد عقد القمة ستتلوه لا محالة توحيد البلاد العربية، وتحرير فلسطين، بل اعتقدنا أنه مقدمة أيضاً لتطهير شمال أفريقيا وجنوب اليمن والخليج العربي من المستعمر الأجنبي، وإطلاق مشروع نهضوي موحد ينقل العرب من خانة التخلف إلى آفاق التقدم. وأتذكر أن حماسنا المفرط لذلك الحدث غير المسبوق، الذي شاركت فيه 13 دولة، قادنا إلى حماس من نوع آخر هو البحث المحموم عن صور فوتوغرافية للقمة في المجلات المصرية واللبنانية، حيث لم يكن الإعلام المرئي قد انتشر بعد لينقل إلينا بثاً حياً مباشراً للحدث بالصوت. كان البعض منا متلهفاً تحديداً على مشهد اللقاء ما بين العاهلين السعودي والأردني (الملكان سعود وحسين) من جهة ونظيرهما المصري عبدالناصر من جهة أخرى، خصوصاً أن الأخير وجريدته الرسمية (الأهرام) وكبير صحفييه (محمد حسنين هيكل) وجهازه الدعائي الأول (صوت العرب) لم يتركوا شيئاً لم يقولوه في حق القيادتين السعودية والأردنية. لكن العاهلين السعودي والأردني كانا كبيرين في أحلاهما، فرميا الماضي خلف ظهريهما من أجل المصلحة العربية المشتركة، بل إن الملك سعود عانق عبدالناصر بحرارة وهو يردد بيت الشعر المعروف: قد يجمع الله الشـتيتين بعدما ظنا كل الظن ألا تلاقيا وإذا كان هذا هو حال بعضنا، فإن البعض الآخر كان يريد أن يعرف كيف سيكون اللقاء بين الملك سعود والرئيس اليمني عبدالله السلال، الذي لم تكن الرياض تعترف بحكومته المدعومة من القاهرة، أو بين عبدالناصر وغريمه "البعثي" رئيس مجلس قيادة الثورة في سوريا وقتذاك الفريق أمين الحافظ، أو بين هذا الأخير والرئيس العراقي عبدالسلام عارف الذي كان قد انقلب قبل عام واحد فقط على بعثيي بلاده وطردهم من السلطة، أو بين العاهل المغربي الحسن الثاني والرئيس الجزائري أحمد بن بلا اللذين كان بلداهما قد خرجا للتو من مواجهة عسكرية حدودية، قيل أن الجزائر بدأتها بتحريض من عبدالناصر، بدليل أسر المغاربة لعدد من الطيارين المصريين كان من بينهم حسني مبارك. لم تكن قرارات القمة الثالثة بحجم الآمال المعقودة عليها، بل إن كل ما قررته لم يجد طريقه إلى التنفيذ. فالخلافات العربية – العربية استمرت، وكذا حرب اليمن بين الجمهوريين والملكيين، ومحاولات إسرائيل تحويل مياه نهر الأردن. أما قرارها بتكوين قيادة موحدة للجيوش العربية تحت أمرة الجنرال المصري "علي علي عامر"، فكان مجرد حبر على ورق، ومحاولة لخداع الشعوب وإيهامها بقرب معركة تحرير فلسطين. ولعل القرار الوحيد الذي جرى تنفيذه هو عقد قمة أخرى في السنة نفسها (1964) في الإسكندرية. بعدها توالى انعقاد القمم في العواصم العربية المختلفة، حتى بلغ عددها 35 قمة مابين عادية وطارئة. ومع كل قمة كانت الشعوب تفقد المزيد من ثقتها بها، ولا ترى فيها سوى مناسبة احتفالية، لأنها فشلت في الخروج بأجندات عملية لحل مشاكل العرب وتحقيق طموحاتهم وأحلامهم، ناهيك عن تحولها إلى مسرح للتهريج بفضل مشاغبات ومماحكات واستعراضات العقيد الليبي الراحل معمر القذافي. لكن قمة بغداد الأخيرة كانت بحق متميزة عن كل سابقاتها بجملة من الأمور، لعل أهمها: أنه لأول مرة تصبح أهمية القمة، ليس في من حضرها وإنما في من غاب عنها (ثلثا القادة العرب تقريبا)، ناهيك عن تدني مستوى تمثيل عدد من الدول المحورية بشكل غير مسبوق ووصولها إلى مستوى سفرائها في الجامعة العربية. - لأول مرة تنعقد القمة في قلعة أمنية محكمة، بسبب ما تعيشه الدول المضيفة من فوضى وأعمال عنف وتمزق داخلي مذهبي وتناحرسياسي. وهذا أيضاً أمر غير مسبوق في تاريخ القمم العربية التي عقدت دوماً في ظل ظروف طبيعية. - لأول مرة تعقد القمة وقطب مؤسس للجامعة العربية (سوريا) يـُمنع من حضورها عقاباً لنظامه لاستباحته دماء شعبه الأعزل، هذا إذا ما استبعدنا سابقة إقصاء الجامعة لمصر بسبب توقيعها معاهدة كامب ديفيد. - لأول مرة يتدنى تمثيل لبنان إلى مستوى وزير الخارجية، علماً بأن الرئيس اللبناني كان على الدوام أول القادمين لحضور القمم العربية، بل كان يتقاتل على الحضور، بدليل ما حدث في قمة 1970 في القاهرة حينما حضر لبنان بقيادة رئيسه المنتهية ولايته "شارل الحلو" لبعض الوقت، قبل أن يقرر الرئيس المنتخب حديثاً "سليمان فرنجية" أن يسحب من سلفه تمثيل بلاده. ولأول مرة تصل تكاليف القمة إلى مبلغ فلكي هو 1.5 بليون دولار. د. عبدالله المدني باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين