يبدو أن الثورات العربية فجرت مشكلات الأقليات التي كانت كامنة لعقود طويلة، وقد كنا في سوريا نفخر دائماً بقوة الوحدة الوطنية التي يعيشها شعبنا، وكنا نعتز بأن العالم كله يقرأ عيشنا المشترك بإعجاب، حتى إن البريطانيين أرسلوا قبل سنوات وفداً إلى دمشق لاستقراء تجربة العيش المتلاحم بين كل شرائح وأطياف السوريين بوصفها حالة رائدة. ولعلي مثل كثير غيري من السوريين أتساءل الآن بأسى مفجع أمام ما أتابع من تصاعد مريع لمشاعر طائفية ومذهبية بغيضة وانقسام مرعب في المجتمع السوري في موقفه مما يحدث في سوريا الآن، أكانت الوحدة الوطنية التي زهونا بها عقوداً أكذوبة صدقناها، أم كانت حقيقة يتم تهشيمها الآن؟ وأين كان مخبأ كل هذا الحقد الذي تفجر فجأة من قلوب بعض السوريين؟ وما نتابعه يوميّاً من أخبار تدمي القلوب تجعلنا نتساءل بمرارة: هل حقاً يحدث هذا في مجتمع الوحدة الوطنية الذي ذابت فيه كل الخلافات التاريخية والإثنية لصالح سوريا التي هي أمنا جميعاً، وما كان أبناؤها يشعرون يوماً بأن الأحقاد وردات الفعل العنيفة يمكن أن تدمر وحدتهم وتهدد أمنهم ومستقبلهم؟ وقد كنت وما أزال أجد الحل الأنجع في السياسة، ولأن الحلول السياسية التي تأتي متأخرة تفقد فاعليتها مثل الدواء الذي تنتهي صلاحيته، فلابد من تجديده ومنحه الصلاحية القابلة، واستمرار ما يحدث الآن من عنف دون حل سياسي سريع سيجر البلد إلى مستنقع دموي أكبر يغرق فيه الجميع، وستضيع سوريا لعدة عقود، وتتأخر عن ركب العالم كله، وسيفجع أهلنا السوريون بآلاف القتلى والجرحى والمعوقين، وسيخسرون كل ما أنجزوا من يوم الاستقلال إلى يومهم الراهن، وسينفقون أموالهم وجهدهم في قتل بعضهم بعضاً. إن الخطر فيما يحدث في سوريا الآن هو تحول الحال إلى صراعات طائفية، وأعجب أشد العجب حين أسمع من يطالب بين الأقليات بضمانات للمستقبل، والصواب أن يبحث السوريون جميعاً بكل طوائفهم ومذاهبهم عن ضمانات لمستقبلهم ووحدة أرضهم. وفكرة الضمانات للأقليات ليست وليدة مجتمعنا، ولاهي من مخاوفه حقاً، فقد ورث السوريون وحدتهم الوطنية عن آبائهم وأجدادهم، ورفضوا تقسيم سوريا يوم قسمها الفرنسيون فأقاموا دولة في دمشق وأخرى في حلب وثالثة في دير الزور، ثم أقاموا بين هذه الدول الثلاث اتحاداً فيدراليّاً، وبقيت في سوريا دولة للعلويين وأخرى للدروز، فضلاً عن دولة لبنان ودولة إسكندرون، وقد أسس الرفض الشعبي لهذا التقسيم القسري لسوريا قوة ومتانة لوحدة الشعب السوري الذي لم يشهد مثل هذه الانقسامات في تاريخه، فحتى في ظل الدولة العثمانية كانت هناك سياسة تحفظ للأقليات حقوقها الثقافية والمذهبية، وكان لكل ملة مجلسها، ولها قوانين أحوالها الشخصية، ولا تتدخل الدولة في تطبيقها. وحين كان يقع الظلم فإنه يشمل الجميع، ولا يخص طائفة دون سواها. وإن كانت دمشق قد عاشت فتنة عابرة عرفت بطوشة النصارى عام 1860 فإن حكماء المسلمين وأبرزهم عبدالقادر الجزائري وعدد من المشايخ المشاهير يومها سارعوا لإطفاء الفتنة ولم تتكرر بحمد الله. وشعب سوريا مشهور بانفتاحه على كل الثقافات والأديان والمذاهب، حتى إن اليهود السوريين الذين أجبرتهم إسرائيل على الهجرة منها يحنون إلى سوريا وإلى ما عاشوا فيها من طمأنينة وأمان، فما بال أهل سوريا الذين يعيشون منذ قرون عيشاً مشتركاً، وجلهم من العرب الكنعانيين الأصلاء فيها أو العرب الذين قدموا مع الفتوحات من الجزيرة العربية. وبعضهم من غير العرب وقد صهرتهم معهم ثقافة عربية مشتركة وحدت بينهم، واتسعت لتشمل كل من ينطق بها أو يعيش في نطاقها. وهكذا كانت فكرة العروبة لسانية وثقافية، وكان من كبار دعاتها مثقفون أكراد يكفي أن نذكر منهم محمد كرد علي بوصفه أول وزير سوري للمعارف، ورئيس مجمع اللغة العربية عام 1919، وهو كردي الأب وشركسي الأم، وهكذا جسدها يوسف العظمة الكردي بوصفه أول وزير للدفاع في سوريا، وهكذا كان يفهم الثقافة العربية شاعرنا الكبير أحمد شوقي وهو الشركسي اليوناني وكذلك العقاد الكردي، وسوى هؤلاء كثير، وهذا الفهم للقومية العربية يضم إليها كل الأعراق التي أعطت هذه الثقافة حضورها عبر التاريخ. والانتماء إلى العروبة يضم المسيحية العربية التي أسهمت في حضارة الأمة إسهاماً ضخماً والمسيحيون في العروبة جزء من الأكثرية العظمى، كما أن الانتماء إلى الإسلام يضم كل من هو مسلم من غير العرب أكراداً وأتراكاً وآشوريين وشراكسة وأمازيغ وسواهم ممن يعيشون مع العرب منذ مئات السنين. وأكثر ما يحزنني أن أجد اليوم مشاعر خاطئة أو فهماً غير لائق للطائفة العلوية في سوريا وتحميلها وزر ما يتحمل وزره السوريون جميعاً فيما وقعوا فيه من أخطاء، والعلويون ليسوا أقلية في العروبة فهم من العرب الأصلاء، وإنما هم أقلية في مذهب لا يكاد يفرقهم عن أهل السنة بأكثر من آثار خلاف تاريخي حول الخلافة قد تجاوزه الزمن، وكثير من شبابهم اليوم لا يعرفون هذا الخلاف ولا يهتمون به، والمؤمنون منهم يعتزون بالإسلام اعتزاز شاعر سوريا الكبير بدوي الجبل وهو يقول "مسلمٌ كلما سجدت لربي، فاح من سجدتي الهدى والعبير" وكذلك كان اعتزازه بعروبته "عربيٌ فلا حماي مباحٌ، عند حقي ولا دمي مهدور" ومن يتأمل صلة الشيخ صالح العلي وإبراهيم هنانو وهما قائدان شهيران في ثورة سوريا ضد الانتداب الفرنسي قبل نحو مئة عام يفهم بعمق معنى الوحدة الوطنية في سوريا. ولست أتحدث هنا عن مكانة العلويين بما يتطلب توازناً يدعو للحديث عن أهلنا من الدروز أو الإسماعيليين أو عن المسيحيين وهم أقرب أهل الأرض إلى المسلمين (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى) لكنني أتحدث عن ظرف طارئ ظهرت فيه مشاعر غير لائقة بين بعض السنة وبعض العلويين وهي لا تعبر عن حقيقة المشاعر الأخوية والوطنية التي صهرت حياتنا المشتركة عبر تاريخ طويل. وأحذر من أن يستغلها وأن يذكيها من يخططون لتقسيم سوريا وتفتيت وحدتها. إنني أرجو من كل السوريين أن يؤكدوا أن ما نعتز به من متانة وحدتنا الوطنية وانتمائنا العميق لسوريا وحفاظنا على وحدة ترابها ومجتمعها، هو حقيقة وليس أكذوبة.