يعد بناء الدولة عملية ذات أهمية قصوى في الأمن الإقليمي والدولي المعاصر. فبوجود الدول الناجحة والمستقرة يزداد الأمن الإقليمي بين الدول، وتقل التهديدات ذات التأثير العالمي مثل: الإرهاب، والجريمة المنظمة، كما تتقلص احتمالية نشوء موجات من المهاجرين واللاجئين. لذلك غالباً ما يعزى فشل الدولة إلى عوامل داخلية، وليس إلى عوامل منظوماتية، ومن ثم فإن فكرة بناء الدول من خلال دعم العمليات والمؤسسات الداخلية وحدها، هي الفكرة السائدة في الوثائق والكتابات السياسية حول بناء الدولة. ويحاول بيتر هالدن في كتابه الذي نعرضه هنا، وعنوانه "بناء المنظومات قبل بناء الدولة"، النظر في مدى صحة بعض الافتراضات السائدة حول هذا الموضوع، وإبراز أهم "الشروط المنظوماتية المسبقة لبناء الدولة"، بإلقاء نظرة تحليلية على ثلاث دول ومناطق معاصرة، هي: الصومال في القرن الأفريقي، وأفغانستان في آسيا الوسطى، وناميبيا في جنوب غربي أفريقيا. وقبل ذلك يوضح أن النقاش والبحث بشأن فشل الدول وبنائها، غالباً ما يركز على الأسباب الداخلية لضعف الدول أو فشلها، كما تركز المعالجات السياسية على الحلول المحلية، أي على بناء مؤسسات قادرة على البقاء. ورغم أهمية هذه التصورات والتدابير معاً، فإن النظر إلى بناء الدولة كعملية داخلية بحت هو في اعتقاد المؤلف نظر خاطئ ولا دليل عليه في عمليات تكوين الدول خلال التاريخ المعاصر. فالـشروط الخارجية لبناء الدولة، والتأثيرات المتبادلة بين بناء الدول والحالة الإقليمية، ينبغي أخذها في الحسبان. وهذا ما تؤكده تجارب ناميبيا، والصومال، وأفغانستان. لهذا يقول المؤلف إنه كما توجد "دول فاشلة" توجد أيضاً "مناطق فاشلة"، مما يعني أن عملية تكوين الدولة تتم على مستوى المنطقة أولاً. لذلك فرغم أهمية معالجة الأسباب والعوامل والعيوب الداخلية، فهو يرى أن هذه الجهود ربما لا تحقق أي نتيجة ما لم تقرن بمعالجة المشكلات الناشئة في السياق الأوسع. وفي رأيه أن عدم الالتفات إلى هذه الحقيقة أدى إلى تجاهل ثلاثة عوامل: أولها أن إقامة دول فاعلة وأمن إقليمي مستدام تتطلب إنشاء هياكل فعّالة للدولة على مستوى المنطقة، وثانيها أن إقامة دول فاعلة ونظام أمني فعال بين الدول يتطلب منظومات دول تعمل بكفاءة، وثالثها أن إقامة دول فاعلة تتطلب قبولاً إقليمياً لعملية بناء الدولة. وباختصار فإنه لا مجال لإنشاء هياكل دولة فعالة في بلدٍ يفتقر إليها، من خلال التركيز على البلد نفسه فقط، فتاريخ نشوء الدول الأوروبية في بدايات العصر الحديث، كما يقول المؤلف، يوضح أن تلك الفكرة غير واقعية، مما يحتم فهم «البيئة الاجتماعية» والسياق الدولي الأوسع الذي تتم فيه عملية بناء الدولة. كما يجادل "هادلن" بأن تكوين الدولة وبناءها لا يؤديان تلقائياً إلى تحقيق الاستقرار الإقليمي، بل يؤديان في حالات كثيرة إلى زيادة التوتر وانعدام الاستقرار الإقليمي. وإن كان هذا لا ينطبق على جميع مناطق العالم حالياً، حيث تلعب الدول الضعيفة في بعض المناطق دور العازل، كما قد تعتقد بعض القوى الإقليمية بأنها ستخسر حالَ تقوية القوى الأضعف، وتحوُّلها إلى حلفاء محتملين لأعدائها. وهو ما يؤكد، في نظر الكاتب، أن برامج بناء الدولة من منظور عملياتي، ينبغي أن تكون ذات طابع إقليمي، وهو المنظور الذي يسعى الاتحاد الأوروبي لتطبيقه في منطقة غرب البلقان حالياً. وأخيراً يقدم المؤلف ثلاثة استنتاجات: أولها أن تحديات بناء الدولة هي أكبر مما تتصوره معظم الوثائق والأدبيات الاستراتيجية. وثانيها أن عملية بناء الدولة تتعارض أحياناً مع تحقيق الاستقرار والأمن الإقليميين. أما الثالثة فهي أنه لإيجاد ظروف ملائمة لتحقيق الاستقرار الإقليمي، فضلاً عن بناء الدولة، يتوجب إيجاد تسوية تشمل المنطقة برمتها. وهذه الاستنتاجات، حسب هادلن، تدعمها الأدلة التاريخية والدراسات المعاصرة، ففي ناميبيا، وهي مثال ناجح على بناء الدولة، سبقت التسوية الإقليميةُ استقلال ناميبيا وبناء هياكل الدولة فيها، أما في الصومال وأفغانستان، وهما مثالان فاشلان، فإن مشكلات تكوين الدولة ترتبط بعدم وجود منظومة دول فعالة، وبعدم التوصل إلى تسوية إقليمية شاملة. ورغم اختلاف الصومال وأفغانستان في نواحٍ كثيرة، فهما تشتركان في صفات، منها أنهما ليستا دولتين فاشلتين فحسب، بل جزءاً من "مناطق فاشلة" كذلك. محمد ولد المنى الكتاب: بناء المنظومات قبل بناء الدولة الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية تاريخ النشر: 2012