القرآن يمتاز بأنه كتاب (قوانين) التي يسميها (كلمات الله)، وانظر إلى تعبيراته كيف يدخل الحدث فينزع منه الاسم والمكان والزمان ويدخله إلى (معمل المطلق). تأمل قوله (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت؟)، أو قوله تعالى (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها؟)، فنحن هنا لا نعرف الشخص ولا المكان ولا الزمان. والعبرة أنه حدث يمكن أن يتكرر كقانون تاريخي. وفهم القرآن على هذه الصورة يعطيه صموداً تاريخياً وعلواً فوق الزمن. ويجب أن نقوم بعمل إبداعي فلا يشترط أن يأخذ عنوان (التفسير)، فهذه كلها علوم أبدعها علماؤنا من قبل ولا يشترط أن نتقيد بها بل نستأنس بها ونبدع الجديد. وكلمة (عقيدة) مثلاً التي أسس عليها علم كامل ليس لها وجود في القرآن، ومع ذلك طور علماؤنا كتباً لا تنتهي حول العقيدة. وهذا يفتح أعيننا على مشكلة تطوير الفكر الديني برمته. بمعنى أن علوماً مثل (التفسير) و(مصطلح علم الحديث) و(الفقه) و(أصول الفقه) كلها علوم ابتكرها من العدم وطورها من سبقنا، ويجب أن نطور نحن علوماً جديدة مثل الدراسات القرآنية التاريخية المقارنة أو البنيوية في القرآن. وهناك ما لا يقل عن عشرين ألف تفسير، حول القرآن، ولكن الحاجة الآن قائمة لأفكار جديدة تشكل (مفاتيح) دخول لفهم القرآن. وفي مكتبتي الخاصة ما لا يقل عن عشرة كتب تفسير، ولكن كتب التفسير القديمة يكرر بعضها بعضاً ولا تشبه كتب التفسير الحديثة. وهذه الآيات (المفتاحية) تتناثر في القرآن مثل (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق؟). أو (يزيد في الخلق ما يشاء) أو (ويخلق ما لا تعلمون) أو (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)... فكلها آيات مفتاحية تدخلنا إلى عالم القرآن الداخلي ومصطلحاته الخاصة وأسلوب قصصه المتفرد. و(تجديد التفكير الديني)، هو كتاب وضعه الفيلسوف محمد إقبال من القارة الهندية قبل أكثر من نصف قرن ويمتاز بصمود علمي وأفكار في غاية الجرأة مثل فكرة ختم النبوة. فهو يرى أن النبوة ختمت لأن العقل الإنساني تجاوز مرحلة الأحكام المسبقة وأصبح بإمكانه أن يمشي من دون عكاز؟ وهذه قفزة في التفكير تجتمع مع آية (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم)، فهذا هو الوحي الجديد. والوحي كما يراه إقبال ظاهرة كونية يمارسها النحل والشجر والبشر في درجات. وأوحى ربك إلى النحل. وآيات الآفاق والأنفس هي الوحي الجديد.