كان للأحداث العربية جوانب عديدة، ليس أقلها، إعادة تعريف مبادئ السياسة الخارجية الأميركية التي ظلت سائدة إلى ما قبل اندلاع أحداثه. وفي الوقت الذي تنسحب فيه واشنطن من مجهودها العسكري في العراق وأفغانستان، والذي تم الاضطلاع به على أساس أهميته للأمن القومي الأميركي (بصرف النظر عن مدى الاختلاف والاتفاق مع هذا المبدأ)، فإنها تعيد في الوقت نفسه الانخراط مجدداً في شؤون عدة دول أخرى، (وإن على نحو غير مؤكد) باسم التدخل الإنساني. والسؤال هنا هو: هل ستحل عملية إعادة البناء الديمقراطي محل مصالح الأمن القومي كمرجعية أساسية لسياسات أميركا في الشرق الأوسط؟ وهل إعادة البناء الديمقراطي هو ما يمثله ما يسمى بـ"الربيع العربي" في الحقيقة؟ وما هو معياره في ذلك؟ الإجماع السائد والمتزايد على الدوام هو أن الولايات المتحدة ملتزمة أخلاقياً بالوقوف لجانب الحركات الثورية في الشرق الأوسط، كنوع من التعويض عن سياساتها إبان حقبة الحرب الباردة التي تعاونت خلالها مع أنظمة غير ديمقراطية لأغراض أمنية، كما أن قيامها، كما يُزعم، بدعم حكومات هشة باسم الاستقرار، ولَّد في النهاية عدم استقرار طويل الأمد. ما جرى في العالم العربي، يُقدم بشكل عام، على أنه ثورة إقليمية بقيادة الشباب، تنتصر للمبادئ الليبرالية الديمقراطية. مع ذلك، نجد أن ليبيا مثلاً ليست محكومة بمثل هذه القوى، بل هي قادرة بالكاد على الاستمرار كدولة. ولا ينطبق هذا الأمر على مصر أيضاً، لأن أغلبيتها الانتخابية (التي قد تكون دائمة) إسلامية في غالبيتها العظمى. كذلك نجد أن الديمقراطيين لم يتمكنوا من أن يكونوا العنصر السائد في المعارضة السورية، علاوة على ذلك ،نجد أن إجماع الجامعة العربية بشأن سوريا ليس مصوغاً من قبل الدول التي كانت تتميز في السابق بممارسة الديمقراطية، أو الدفاع عنها، وإنما جاء كي يعكس الصراع المستمر منذ ما يزيد عن ألف عام بين الشيعة والسُنة، إذ يحاول استرداد السيطرة السُنية مجدداً من أيدي الأغلبية الشيعية. وهذا تحديداً هو السبب الذي يجعل العديد من الأقليات في العالم العربي مثل الدروز والأكراد والمسيحيين يشعرون بالقلق بشأن احتمالات تغيير النظام في سوريا. ما يمكن قوله إن هذا التلاقي لطائفة من أصحاب المظالم المتنوعة الذين يرفعون شعارات عامة، لم يتحول بعد إلى محصلة ديمقراطية، وأنه كلما كان حجم الدمار الذي يلحق بالنظام القائم هائلاً، كلما ازدادت صعوبة تأسيس السلطة المحلية، وكلما ازدادت احتمالات اللجوء للقوة، وفرض أيديولوجية ذات صبغة عالمية، وكلما أصبح المجتمع بالتالي أكثر تشظياً، وتزايدت إغراءات تعزيز الوحدة من خلال التماشي مع رؤية هي مزيج من نزعات إسلاموية وقومية، تستهدف القيم والأهداف الغربية. إن الثورات تقاس بمحطتها النهائية أي بمآلاتها وليس بأصلها أو منبتها، أي تقاس بمحصلتها وليس بشعاراتها ودعواتها. والهموم الإنسانية لا تلغي الحاجة للربط ما بين المصلحة القومية وبين مفهوم النظام العالمي. وفيما يتعلق بالولايات المتحدة، فإن عقيدة التدخل الإنساني العام في ثورات الشرق الأوسط سيثبت أنها غير قابلة للاستدامة، ما لم يتم ربطها بمفهوم الأمن القومي الأميركي. والتدخل يحتاج إلى النظر في الأهمية الاستراتيجية، والتماسك المجتمعي للدولة التي يتم فيها التدخل، وتقييم ما يمكن بناؤه بشكل مقنع، كي يحل محل النظام القديم. لقد جفل الرأي العام الأميركي بالفعل أمام نطاق المجهودات المطلوبة لتحويل فيتنام، والعراق وأفغانستان. فهل نعتقد أن أي انخراط أميركي استراتيجي أقل وضوحاً، ويدعي تنصله عن هدف السعي لتحقيق مصلحة قومية أميركية، سيجعل من عملية بناء الأمم أقل تعقيداً مما هي عليه الآن؟... أم أننا سنلجأ إلى إدعاء أنه لا شأن لنا بالأمر طالما أن الآليات التي جاءت بتلك الحكومات كانت آليات انتخابية؟ وإذا ما كان الأمر كذلك، فكيف نتجنب مخاطر دعم نوع جديد من الإطلاقية المقننة، من خلال استفتاءات مهنْدَسة؟ هذه الموضوعات وغيرها كانت غائبة لحد كبير من الحوار الدائر بشأن السياسة الخارجية الأميركية تجاه تطورات المشهد العربي. وإجابة السؤال المتعلق بما إذا كانت الأحداث العربية ستؤدي بالفعل لتعزيز مجال الحريات الشخصيةـ أم أنها ستستبدل السلطوية الإقطاعية بعهد جديد من الحكم المطلق القائم على استفتاءات مهندسة وأغلبيات دائمة ذات قاعدة طائفية، لن يمكن معرفتها فقط من خلال التصريحات والبيانات العامة المبدئية للقوى الثورية. فالقوى السياسية الأصولية التقليدية، المعززة بتحالف مع الثوريين الراديكاليين، تهدد بالهيمنة على العملية برمتها، في حين تتعرض الشبكة الاجتماعية للعناصر التي شكلت البداية الثورية، للتهميش. يجب على أميركا أن تشجع الطموحات الإقليمية للتغير السياسي، ولكن ليس من الحكمة من جانبها أن تسعى إلى نتيجة متماثلة في كل دولة، تتم بالوتيرة ذاتها. أميركا ستخدم قيمها جيداً، وربما على نحو أكثر نجاعة، من خلال تقديم المشورة الهادئة، أكثر مما يمكن أن تخدمها من خلال التصريحات والبيانات العامة، التي قد تنتج في النهاية إحساساً بالحصار لمن توجه لمصلحته تلك التصريحات والبيانات. ولا يعد هذا تخلياً عن مبدأ تفصيل الموقف الأميركي على أساس مبدأ "أن لكل دولة خصوصيتها"، الذي يتم مناغمته مع العوامل الأخرى ذات العلاقة، بما في ذلك الأمن القومي، لأن هذا تحديداً هو ما يمثل جوهر السياسة الخارجية الخلاقة. لما يزيد عن نصف قرن، كانت السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط تهتدي بعدة أهداف أمنية جوهرية هي: أولاً الحيلولة دون بروز أي دولة في الإقليم كقوة مهيمنة، ثانياً، تأمين التدفق الحر لمصادر الطاقة التي مازالت ذات أهمية حيوية لتسيير دولاب الاقتصاد العالمي، ثالثاً، محاولة التوسط من أجل التوصل لتسوية سلمية دائمة بين إسرائيل وجيرانها بما في ذلك التوصل لتسوية مع العرب الفلسطينيين. خلال العقد الماضي برزت إيران باعتبارها التحدي الرئيسي للأهداف الثلاثة المذكورة. ويلزم القول هنا إن هذه المصالح لم تُمح جراء التطورات العربية الراهنة، وإنما أصبح تحقيقها أكثر إلحاحاً في الحقيقة عما كان عليه من قبل. وأي عملية تنتهي بأن تصبح الحكومات الإقليمية إما ضعيفة أكثر من اللازم، أو معادية للغرب أكثر مما ينبغي، أثناء توجهها ـ العملية- لمنح دعم لهذه المحصلات، وبما يؤدي لأن تتحول الشراكة مع أميركا إلى أمر غير مرحب به، يجب أن تثير المخاوف الأميركية الاستراتيجية، بصرف النظر عن الآليات الانتخابية التي تأتي بمثل تلك الحكومات للسلطة. وفي إطار هذه الحدود العامة، يمكن القول إن السياسة الأميركية أمامها مجال كبير في الحقيقة للخلق والإبداع، فيما يتعلق بتعزيز القيم الإنسانية والديمقراطية. ويجب على الولايات المتحدة أن تكون مستعدة للتعامل مع الحكومات الإسلامية ولكنها أيضاً لها الحرية في اتباع مبدأ معياري من مبادئ السياسة الخارجية التقليدية، لتكييف موقفها بحيث يكون على تواز مع مصالحها، ومع أعمال الحكومة ذات الشأن. في التحليل الأخير، يمكن القول إن المسلك الذي اتبعته الولايات المتحدة خلال الانتفاضات العربية كان ناجحاً، من حيث إنه قد تجنب وضع أميركا كعقبة تقف حائلاً أمام التحولات العربية. وليس هذا بالإنجاز البسيط بحل وإنما هو فقط مكون واحد من مكونات المقاربة الناجحة. في نهاية المطاف سيتم الحكم على السياسة الأميركية أيضاً من خلال معرفة ما إذا كان ما سيبرز من الأحداث العربية، سيؤدي لتحسين مسؤولية الدولة المُصْلحَة، تجاه النظام العالمي والمؤسسات الإنسانية. ــــــــــــــــــــــــــــــ هنري كيسنجر وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفس"