ما الذي تعنيه عبارة "آسيا الوسطى" في لغة التاريخ والجغرافيا والعلاقات الدولية؟ وما هي خلفيات ظهور هذا المفهوم الجغرافي- السياسي؟ وعلى أي أساس تحددت خرائط الدول الخمس المكونة لهذا الإقليم: (تركمانستان، أوزبكستان، كازاخستان، قيرغيزستان، وطاجيكستان)؟ هذه أسئلة ضمن أخرى كثيرة تثيرها الكاتبة "سفيتلانا غورشينينا" في كتابها الصادر منتصف الشهر الجاري، عن المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، الذي تعمل فيه المؤلفة باحثة متفرغة ومتخصصة في شؤون تلك المنطقة الواسعة الحبيسة جغرافيّاً الواقعة بين روسيا والصين والهند وأفغانستان وإيران. وقد أصدرت "غورشينينا" من قبل عدة كتب رصينة عن هذه المنطقة منها: "علماء الآثار في آسيا الوسطى: من كابول إلى سمرقند"، و"المستكشفون في آسيا الوسطى: الرحالة والمغامرون من ماركو باولو إلى إيلا ميّارت"، وكذلك: "تركستان الروسي: استعمار آخر". وفي البداية توضح الكاتبة أن وحدة اهتمام دراستها المفصلة في 381 صفحة هي ما تسميه "اختراع الحدود" الموروثة عن العهدين الروسي والسوفييتي في منطقة تركستان الكبرى، التي تشكلت حدود دولها الحالية خلال الفترة من 1860 إلى 1936، على أيدي من كانوا يسمون في ذلك العهد بـ"راسمي الحدود" سواء أكانوا محليين أم خارجيين، من دبلوماسيين، وعسكريين، ورحالة، وأكاديميين روس، ممن اهتموا بشؤون المنطقة منذ بدايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقد دونوا اجتهادات جغرافية وسياسية استعان بها البلشفيك السوفييت بعد استيلائهم على آسيا الوسطى لتقسيم المنطقة إلى خمس جمهوريات سوفييتية طيلة عقود قيام الإمبراطورية السوفييتية. ومن هذا المنطلق تقدم "غورشينينا" قراءة أخرى تعيد اكتشاف جذور الخرائط السائلة لهذه المنطقة المتداخلة تاريخيّاً وسكانيّاً، وذات التشابكات العرقية والثقافية المترابطة، وتقدمها كما هي في الواقع والتاريخ بعيداً عن أية كليشيهات أو صور نمطية، واضعة بين هلالين مفهوم "الحدود الطبيعية" نفسه، مبرزة أن كل حدود في عالم العلاقات الدولية ما هي في النهاية سوى ترجمة لتطلعات البشر وتوازنات علاقات القوى على الأرض، وليست بالضرورة بفعل الطبيعة نفسها حتى لو كانت الحدود تبدو أحياناً حتمية كما في حالة الدول- الجزر مثلاً. وبالاستعانة بترسانة من الأرشيف والوثائق والمصادر حول المنطقة وبنيتها الجغرافية والسكانية والتاريخية تقدم "غورشينينا" على كسر "التابو" الأول المرتبط بموضوع دراستها، وهو الاعتقاد الشائع بأن ستالين هو من يتحمل وحده المسؤولية عن تقطيع خرائط منطقة آسيا الوسطى لتصبح خمس دول كما هي اليوم، وذلك بناءً على اعتقاد آخر لا يقل رواجاً مؤداه أن هدف الديكتاتور السوفييتي القاسي، من وراء كل ذلك، كان تمزيق وتفريق شعوب آسيا الوسطى عملاً بمبدأ "فرّق تسد"، لتسهل عليه إدارتها ضمن عجلة صهر إمبراطوريته السوفييتية الساحقة للقوميات والثقافات والانتماءات القومية. وهنا تذهب الكاتبة إلى أن احتواء القوميين المحليين في المنطقة، والمد الثقافي الإسلامي، كانا هدفين بكل تأكيد على أجندة ستالين، ولكن صناعة خرائط دول المنطقة سابقة بكثير، من الناحية التاريخية، حتى على عهد الإمبراطورية السوفييتية نفسه. أما بعد انهيار الإمبراطورية السوفييتية فقد توافقت النخب السياسية في آسيا الوسطى نفسها على الحدود الحالية للدول الخمس، وذلك بتحويل ما كان حدوداً إدارية بينها، في العهد السوفييتي، إلى حدود سياسية دولية نهائية. ولاشك أن من نقاط الاستظهار في دراسة "غورشينينا" أنها تكسر أيضاً "تابو" آخر، معتمدة على كتابات تاريخية ومذكرات ومشاهدات رحالة، ومستشرقين، حين تتحدث عما تسميه الاستعمار الروسي، وكما نبّهت إلى ذلك الكاتبة المتخصصة في شؤون آسيا الوسطى "مارلين لاريل" التي كتبت مقدمة لهذا الكتاب، فإن عمل "غورشينينا" قد وضع النقاط على الحروف فيما يتعلق بالاستثناء الروسي من ممارسة الاستعمار. ذلك أن روسيا القيصرية، وحتى الشيوعية، ظلت دائماً تتحرك في منطقة آسيا الوسطى ومناطق جوارها الآسيوي الأخرى وهي مدفوعة بما تعتبره رسالة "تحضير" لشعوبها، تماماً على طريقة "مهمة الرجل الأبيض" ورسالته الإنسانية في تحضير شعوب العالم المتخلفة (المختلفة) التي كانت تحرك الدول الاستعمارية الغربية في مغامراتها فيما وراء البحار. وهنا يسلط هذا الكتاب أيضاً أضواء كاشفة على الكيفية التي كان المحتلون الروس يستلهمون بها طرق إدارة وتسيير شؤون مستعمراتهم في منطقة تركستان الكبرى بالاعتماد على نماذج الإدارات الاستعمارية الغربية، وأحياناً كثيرة أيضاً باستدعاء تبريراتها وأساليب عمليات تدخلها القيصرية. حسن ولد المختار ---------- الكتاب: آسيا الوسطى، اختراع الحدود والإرث الروسي- السوفييتي المؤلف: سفيتلانا غورشينينا الناشر: المعهد الوطني للبحث العلمي (باريس) تاريخ النشر: 2012