ما زالت قرارات الأمم المتحدة ومؤسساتها ووكالاتها التي تعطي الحقوق الفلسطينية شرعيتها الدولية منذ نكبة 1948 مجرد حبر على ورق دون تنفيذ، مع أنها (أي القرارات) طالما أوصت بوضع برامج لتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير المصير دون تدخل خارجي، وممارسة استقلاله وسيادته والعودة إلى بيوته وممتلكاته. ورغم أهمية كافة القرارات إلا أن القرار رقم 3376 حول ممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه "غير القابلة للتصرف" في عام 1975، هو من أهمها، وإن عارضته دولة الاحتلال الصهيوني بطبيعة الحال. "الحقوق غير القابلة للتصرف"، هي من الحقوق الثابتة الراسخة، مثل باقي حقوق الإنسان التي لا تنقضي بمرور الزمن، ولا تخضع للمفاوضة أو التنازل، ولا تسقط أو تعدل أو يتغيّر مفهومها في أي معاهدة أو اتفاق سياسي من أي نوع، حتى لو وقعت على ذلك جهات فلسطينية "تمثل" الشعب الفلسطيني أمام العالم. ذلك أن كلاً من هذه الحقوق هو حق شخصي، لا يسقط أبداً، إلا إذا وقع كل شخص بنفسه وبملء إرادته على إسقاط هذا الحق عن نفسه فقط. والحقوق هي لكل الأمم والجماعات لإقامة دولها المستقلة التي تروم التعايش السلمي مع جيرانها ومع بقية دول العالم: حق الشعب غير القابل للتصرف في أن يقرر مصيره دون أن يشكل خطراً داهماً يهدد مصير شعوب أخرى. والحق للشعب في الحياة والحرية والسعي إلى السعادة، وحرية العبادة المطلقة، والمساواة تحت حكم القانون، وتحريم مصادرة الأملاك الفردية أو أملاك الأمة بدون تعويض كامل. كل هذه الحقوق غير القابلة للتصرف وهبها الخالق كقيم روحية لكل فرد بشري بغض النظر عن اللون والجنس والعقيدة الدينية. ومن هذه القيم الروحية بنت الدول المتحضرة دساتيرها وعلى رأسها شرائع الأمم المتحدة نفسها التي -للأسف- خلقت دولة الكيان الصهيوني. كل هذه الحقوق غير القابلة للتصرف -القيم الروحية- أصبحت محرمة تماماً على الشعب الفلسطيني دون سواه! لنأخذ، مثلاً المبدأ غير القابل للتصرف والذي يعطي كل شعب الحق المطلق في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة: لقد منعت الدول الأوروبية -عملياً- الشعب الفلسطيني من إقامة دولته في عام 1949 عندما انسحبت القوات المحتلة البريطانية من فلسطين لكي تفسح المجال للاجئين أوروبيين يهود لإقامة دولتهم الدينية على أرض فلسطين، حين أرادت أن تعوض من نجوا من "المحرقة" التي أشعلها الأوروبيون أنفسهم بإخوانهم من اليهود الأوروبيين. بالمقابل، لا تعويض للفلسطينيين بل إن حقوقهم تنتهك يومياً في وطنهم بقوة القتل والاستبعاد والترحيل والشقاء لغالبية الشعب الفلسطيني بسبب الاحتلال الإسرائيلي الاستعماري "الاستيطاني" المتوسع، فضلاً عن مصادرة البيوت والمزارع والأراضي، والاعتداءات اليومية "للمستوطنين" على المزارع الفلسطينية واقتلاع أشجار الزيتون وإحراق المساجد والكنائس ومهاجمة المدنيين... كل هذا وغيره أصبح روتيناً يومياً تشجعه وتحميه القوة العسكرية الإسرائيلية الاستعمارية المحتلة في فلسطين. وفي هذا السياق، قالت منظمة "هيومن رايتس ووتش" إنه "حتى بعد سنوات من انسحابها من غزة، فإن إسرائيل لا تزال تفرض قيوداً على إجراءات تسجيل القيد وإقامة الفلسطينيين وسفرهم من الضفة الغربية وغزة وإليهما". وفي الأصل، لا يمكن لأي كان، فلسطينياً أو عربياً، التنازل عن أي حق من هذه الحقوق، وعلى رأسها حق العودة، المستمد من القانون الدولي المعترف به عالمياً. فحق العودة مكفول بمواد الميثاق العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 ديسمبر 1948، إذ تنص الفقرة الثانية من المادة 13 على التالي: "لكل فرد الحق في مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده، وفي العودة إلى بلده". وقد تكرر التأكيد على هذا الحق في المواثيق الإقليمية لحقوق الإنسان، الأوروبية والأميركية والأفريقية والعربية. وفي اليوم التالي لصدور الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، أي في 11 ديسمبر 1948، صدر القرار الشهير رقم 194 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي يقضي بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة والتعويض. وأصر المجتمع الدولي على تأكيد القرار 194 منذ عام 1948 أكثر من 135 مرةً، ولم يعارضه إلا إسرائيل، لكن بعد اتفاقية أوسلو عارضته الولايات المتحدة كذلك! وفي هذا السياق أيضاً، فإن ما ينطبق على حق العودة للاجئين الفلسطينيين ينطبق على كافة الحقوق الأخرى آنفة الذكر. غير أن الحق في مضامين هذه "الحقوق"، والحق في وضعها موضع التطبيق، هما حقان مسلوبان بروافع المقارفات الإسرائيلية التي يبدو أن العالم الغربي غير معني بوضع نهاية لها. والحال كذلك، كيف يمكن الحديث عن حقوق شعب يتفق العالم أجمع على أنها غير قابلة للتصرف، فيما تقوم إسرائيل، في ظل ازدواجية الموقف الغربي بشكل مستمر، بشن حرب وجودية على الشعب الفلسطيني بكافة الوسائل: بدءاً من الترحيل (الترانسفير)، إلى الحصار والعزل والحرب الشاملة. إنه احتلال استعماري "استيطاني" على الأرض متواصل منذ تأسيس الكيان الصهيوني، وقد أخذ كل مواصفات "الآبارتايد" في كل مكان من فلسطين التاريخية. وتستمر "إسرائيل" في خطواتها الأحادية والعدوانية في عموم الضفة، فضلاً عن الإجراءات الأحادية التي تقوم بها في القدس الشرقية بهدف تغيير معالم المدينة وهويتها وإفراغها من أهلها العرب. كما نجدها تحذر الفلسطينيين من إمكانية اتخاذ مزيد من الإجراءات أحادية الجانب بعد اتفاق المصالحة بين حركتي "فتح" و"حماس". والحال كذلك، فالسؤال هو: عن أي حقوق "غير قابلة للتصرف" يمكن الحديث، بينما يتواصل الصراع بين قوة احتلالية استعمارية (استيطانية) من جهة، وشعب خاضع للاحتلال من جهة ثانية... فيما يبدو المجتمع الدولي كالمتواطئ مع إسرائيل وهي تنتهك تلك الحقوق وتعتدي عليها؟ ما كانت النكبة، والتي نتج عنها قيام الكيان الصهيوني على أنقاض الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير مصيره بنفسه، ما كانت لتحدث دون التواطؤ الدولي، والدعم الاستعماري الظاهر والخفي. وأخيراً، فإن هاجس الخوف الإسرائيلي من الفلسطينيين لن يتوقف. بل سيدوم ما دامت هناك قضية للشعب الفلسطيني. والشاهد على هذا الخوف يتجلى في أدبيات إسرائيلية وغربية متزايدة.