لا يولد النص الأدبي في فراغ، وإنما هو -ومهما حلق في آفاق التجريد، أو الخيال- امتداد للواقع الذي يعيشه الأديب، ولذا فإنه يتأثر بطبيعة القضايا السياسية والاجتماعية، التي تطرح وقت إنتاجه. والعلاقة بين الكاتب وعصره، ظاهرة لا تخطئها النظرة السريعة، فآثار الأدب والفكر في عصور التاريخ كفيلة بأن تمدنا بأي عدد شئنا من الأمثلة، التي تؤكد الرابطة الوثيقة بين تلك الآثار، وروح العصر الذي كتبت فيه. ولم يكن هذا عن عمد من أصحابها، فعناصر الحياة قائمة حول الكاتب، وهو حر في أن يتناولها على أي وجه يختار. وهذه العناصر منها الخاص، الذي يتعلق بحياة الأديب الشخصية، ومنها ما يمثل هموماً عامة تمس قطاعات عريضة من البشر، ويتفاعل معها الأديب سلباً أو إيجاباً، وينتج تفاعله هذا نصوصاً أدبية مختلفة. والعامل الأساسي الذي يُخلد عملًا أدبيّاً دون غيره، هو مدى تعبيره عن أحداث العصر الذي تم تأليفه فيه. وبقدر مشاركة الأديب في تلك الأحداث، تتحدد درجة عمق إنتاجه، ومن ثم، درجة بقائه، ومقدار ذيوعه. ولاشك أن الأحداث تختلف من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى آخر. ولذا، وعلى حد قول "مدام دو ستال"، فإن "لكل مجتمع الأدب الذي يستحق". وإذا كان من الصعب علينا أن نفهم الأدب المكتوب في أوروبا خلال فترة الحربين العالميتين إلا برده إلى جو الحرب، وما تركته من دمار وفزع، فإن من العسير، كذلك، أن نفهم الأدب العربي الحديث، وخاصة الرواية، دون ربطه بالقضايا التي فرضت نفسها على الواقع المعيش. وعلى رغم اختلاف بعض أوجه الظروف الحياتية من قطر عربي إلى آخر، فإن هناك قضيتين داخليتين انعكستا على أغلب إنتاج الأدباء العرب من المحيط إلى الخليج، وهما القهر السياسي والظلم الاجتماعي ، حيث لا يكاد يخلو أي قطر عربي من هاتين المشكلتين المحوريتين. ويساهم الأدباء، مع غيرهم، من المثقفين، التحديثيين والتقليديين، على حد سواء، في الثورة على أنماط الحياة العربية السلبية، بما فيها من مظاهر التفكك والتبعية والاغتراب، وبما تحمله من مشكلات اجتماعية، تتطلب مواجهتها، مثل الفقر والجهل والمرض والفساد والفوضى الإدارية وتدني الإنتاج.. الخ. ولمقاومة القهر السياسي سلطت الرواية العربية الضوء على الأزمة الحادة التي تواجه الحرية السياسية في العالم العربي، من خلال رصدها لواقع تلك الأزمة، وتجسيدها في مشكلات الأبطال الروائيين، العامة والخاصة، فصورت حصار ومطاردة وتعذيب هؤلاء الأشخاص، عبر تناولها حياة السجن كنقيض للحرية، منطلقة من اعتباره مكاناً روائيّاً، لتعالج أحد مظاهر غياب الديمقراطية، وترصد شكلاً من أشكال علاقة السلطة السياسية بالإنسان العربي. ومن أهم الروايات التي تناولت حياة السجن وصنوف التعذيب، "الكرنك" لنجيب محفوظ، و"العسكري الأسود" ليوسف إدريس، و"شرف" لصنع الله إبراهيم، و"السرداب رقم 2" ليوسف الصايغ، و"الأسوار" لمحمد جبريل و"الزنزانة" لفتحي فضل، و"العطش" و"وراء الشمس" لحسن محسب، و"حكاية تو" لفتحي غانم، في حين تقدم رواية جمال الغيطاني "الزيني بركات"، التي استلهمت التراث وأسقطته على الواقع، رؤية واضحة لإرهاب السلطة، وألوان القهر والتعذيب، وهي المسألة التي تمثل جوهر أعمال الأديب عبدالرحمن منيف. ولم تكتف الرواية العربية بتناول هذا "القمع المعلن"، بل تطرقت إلى مظاهر القمع غير المعلن، الذي تمارسه السلطة من خلال مؤسساتها ودوائرها البيروقراطية. ومن أمثلة الروايات التي جسدت هذه الحالة "الأشجار واغتيال مرزوق" لعبدالرحمن منيف، و"قالت ضحى"، و"شرق النخيل" لبهاء طاهر، و"الوشم" لعبد الرحمن الربيعي، و"حكاية المؤسسة" لجمال الغيطاني. وقد صارت الحرية، ولا تزال، تمثل هاجساً أساسيّاً للرواية العربية، وكأن تلك الرواية لا تعدو كونها نصاً ولد ليدافع عن الحرية والتنوير، قبل أن يكون رواية بالمعنى الفني للكلمة. وعالجت الرواية العربية أيضاً، قضية الظلم الاجتماعي، من خلال تناولها لنمط العلاقات السائدة بين كبار المُلاك وصغار المزارعين في الريف، مثل رواية "الأرض" لعبد الرحمن الشرقاوي، و"الحرام" ليوسف إدريس، وبين أصحاب العمل والعمال في المدن، راصدة بشكل دقيق الصورة الذهنية لدى كل طرف عن الآخر. وظهرت "رواية الصحراء"، التي تعرضت لحياة البدو، مثل أعمال إبراهيم الكوني. والمسألة الكبرى، التي مثلت هماً قوميّاً للأدب العربي، هي الصراع مع إسرائيل، والقضية الفلسطينية التي تقع في قلبه. فالرواية العربية الحديثة صورت مراحل تطور هذه القضية، وجعلت منها الفكرة المحورية التي دارت حولها أحداثها، ونسجت من خلالها شخصياتها. وأثرت هذه القضية في الرواية عبر تقديمها أشكالاً ورؤى وشخصيات جديدة نابعة من واقع النضال الفلسطيني في مختلف مراحل الانكسار والانتصار والحصار، فتنوعت أشكال البناء الروائي، من الرواية التاريخية إلى الرواية التسجيلية، والرواية الفنية، التي جمعت بين الواقعية والرمزية والتعبيرية. وقد ترك الصراع مع إسرائيل أثراً ملحوظاً في الرواية، كمّاً وكيفاً. فعلى مستوى الكم، نجد أن عدد الروايات التي تم تأليفها في السنوات الست السابقة على هزيمة يونيو عام 1967، يصل إلى 92 رواية، بينما بلغت حصيلة السنوات الست اللاحقة لها 167 رواية. وقد يقال إن الهزيمة ليست السبب الوحيد الذي يقف وراء غزارة الإنتاج الروائي العربي، ولكنها، دون شك، كانت عاملاً أساسيّاً، في هذا الصدد، إن لم تكن أهم العوامل. وعلى مستوى الكيف عبرت الرواية عن حالة الإحباط التي سادت الشارع العربي عقب الهزيمة، وحالة الترقب لمواجهة جديدة مع إسرائيل، والأمل في الخروج من الانكسار، وتحقيق نصر على العدو. ومن الروايات، التي تناولت الصراع مع إسرائيل والقضية الفلسطينية، "سداسية الأيام الستة" و"الوقائع الغريبة لاختفاء سعيد أبو النحس المتشائل" لإميل حبيبي، و"رجال في الشمس" و"ما تبقى لكم" و"عائد إلى حيفا" و"أم سعد" لغسان كنفاني، و"أيام الحب والموت" لرشاد أبو شاور، و"المجموعة 778" و"حبيبتي ميليشيا" لتوفيق فياض، و"الصبار" و"عباد الشمس" لسحر خليفة، وثلاثية (حارة النصارى ـ الرحيل ـ القناع) لنبيل خوري، و"صراخ في ليل طويل" لجبرا إبراهيم جبرا، و"الوطن في العينين" لحميدة نعنع، و"الرجع البعيد" لفؤاد التكرلي، و"الخرز الملون" لمحمد سلماوي، و"يحدث في مصر الآن" و"الحداد" ليوسف القعيد، و"بيوت وراء الحدود" لعيسى الناعوري، و"أبناء الصمت" لمجيد طوبيا، و"المحاصرون" لفؤاد حجازي، و"في الصيف السابع والستين" لإبراهيم عبدالمجيد، و"المزامير" لفتحي سلامة.